عشت سواد ليلة البارحة، ومروراً لعشرات المرات، تلك القطعة الشعرية المموسقة للشاعر الشاب، والقادم بألق مختلف، مفرح الشقيقي، عن الفقراء. وللحق فقد قرأت في حياتي آلاف القصائد والدواوين، ولكنني لم أقرأ من قبل هذه القصيدة تجسيداً لحياة الفقراء مع سرقة الأغنياء وهو يقول:
نحن اللصوص الغاصبون له
لا نبل يعصمنا ولا شرفا
البيت السابق في أعلاه وحده يجسد قصة العلاقة بين الأغنياء والفقراء في المجتمعات الفطرية الناشئة. عشت في حياتي عشرات قصص الفقراء والأسر المعدمة، ومثلما بكيت بشوق على تراتيل هذه القصيدة الحزينة من فم الشاعر الشاب، أتذكر آخر ليلة صيام من رمضان الماضي قضيت مغربها الأخير بصحبة عائلة تهامية فقيرة معدمة. كنا قبل أذان المغرب بربع ساعة. كان رب الأسرة ذابلاً جافاً -بعد نهار حار طويل- صائما، وللتو، جاء بعد أن كان يرعى أغنامه القليلة في صحراء الخبت التهامي الساخن. ولربع ساعة قبل الأذان، كان يحمل بين يديه "كاسة" كبيرة من الماء المخنوقة بلبن الضان الطازج. كان ينتظر بلهفة وظمأ حاد مجرد أن يقول المؤذن: الله أكبر. ربع ساعة من الوقت لكنها وحدها أطول من كل نهاره الطويل، وهنا تبدو ذروة الإيمان والتقوى. وعندما سمعنا أذان المسجد البعيد قال لي: ننتظر حتى يؤذن المسجد المجاور لأنه يتأخر قليلاً، وتلك جملة لن أنساها ما حييت. كان الفرق ما يقرب من دقيقتين وهي مسافة من الزمن تبدو طويلة إلى جسد يقف أمامي لا مثل خشبة سمر أو طلح ذابلة بل مثل صحراء رملية صفراء تنتظر قطرة الماء بشغف. مع لحظة الأذان الأخيرة، كان هذا الفقير يدفع لي بإنائه لأشرب أولاً وكنا نقسم على بعضنا البعض: من يشرب أولاً، استسلمت له وأخذت نفساً عميقاً من "الكاسة" الكبيرة ثم أعدتها إليه. كنت آراه يشرب بنهم وهو يرفع رأسه رويداً رويداً حتى ملامسة طرف "الكاسة" جبهته الشريفة الطاهرة. هنا ذروة القصة وجوهر المقال: بعت هذه الأرض يا ولدي لأشتري هذه الأغنام واليوم قيمة الأرض نصف مليون ريال... وهنا تذكرت
نحن اللصوص الغاصبون له
لا نبل يعصمنا ولا شرفا