أعتقد بأن شبكات التواصل الاجتماعي كما تعطينا تأخذ منا، وكذلك يفعل الإعلام من خلال جميع وسائطه التي يطل من خلالها علينا، المشكلة ليست فيما نقرأ أو نشاهد، بل كيف نقرأ وكيف نشاهد وكيف نتفاعل كنتيجة لهذا الانفجار المعلوماتي؛ نتعرض في كل يوم من حياتنا إلى وابل من الأخبار التي تهاجمنا ما بين "هام وعاجل" و"مضحك مخزٍ" و"فاضح هزلي" حتى بتنا نجد أنه من الصعب على المرء الاستمرار في التركيز على خبر واحد! في حين أن الجسد الأكبر لهذه المعلومات أو الأخبار يتأرجح ما بين التافه والأكثر تفاهة!

حين نتصفح الشبكة أو نشاهد التلفاز، لنسأل أنفسنا: عن ماذا نبحث؟ ولماذا نبحث؟ وهل ما نجده مرضٍ لحد الإشباع؟ أم أصبحنا في جوع مستمر للمزيد والأجد، وللمثير والأكثر إثارة! إن كل فكرة أو حدث أو مشهد يُقصي الذي قبله، قد لا يمحوه ولكن يبعده أو على الأقل يجمده، لدرجة أصبحت الذاكرة قصيرة المدى! نتحرك أو نتفاعل حسب آنية الحدث أو الخبر وما أن يظهر الذي بعده حتى ننتقل إلى مسطح جديد من التفاعل السريع قبل أن ننتظر نتائج ما جاء قبله، وبهذا أعني دون استخدام مهارات التفكير الناقد للتوصل إلى الحكم الموضوعي والعمل الجماعي لخلق الحلول ومتابعة تنفيذها، وللأسف قد يعاود الحدث الظهور مرة بعد أخرى، ولكن في كل مرة نتعامل معه وكأنه يظهر للمرة الأولى ونعود إلى أول السطر ثانية! أصبح الكثير منا يتأرجح ما بين ثقافة أسيرة للإعلام الموجه وبين ثقافة تافهة مرتبطة بالترفيه والإثارة!

نجد اليوم أن شؤوننا الاجتماعية تُعرض علينا يوميا كمسرحيات هزلية، تحولنا إلى مجتمعات لا تتفاعل إلا إذا كانت هي المشاهد! وحين تناقش القضايا المهمة يقفزون إلى الذي بعدها من تغيير القناة أو الانتقال إلى مقالة أخرى لا تحث على التفكير! لماذا الآن؟ وأين بقية الخبر؟ وما الذي تم إخفاؤه؟ ما الذي تم إظهاره؟ من المستفيد؟ من المحرك؟ لا نتساءل بل نُفضل أن نُصغي لمن يفكر عنا ويترجم لنا البيانات ويفسر لنا الأحداث؛ بأن يعطيها معنى! غاب عنا أننا نستطيع أن نخلق لها المعنى بالوعي وتنمية الثقافة الذاتية! لقد أصبحت الثقافة ثقلا لا نريد حمله، والتفكير مكلف لا نمتلك ثمنه، فكل ذلك يأخذ جهدا ووقتا لا نريد صرفهما خارج إطار الترفيه والتسلية؛ وبهذا تم تعميد الحياة الثقافية كمخرجات لوسائل الترفيه! جعلنا أيقونات من شبه المثقفين في عالم الفن والرياضة والدين والسياسة والإعلام!

يجب أن نراجع خطوات تفكيرنا لأننا إن لم نفعل ذلك فلن نستدل على الخلل في تفكيرنا، وبالتالي لن نعمل على تقويمه من خلال ملء الثغرات بالمعلومات والحقائق الموثقة من المراجع المعتمدة، حتى لا نكون عرضة للتشتت، مخدوعين أو معزولين عن الواقع! عندها لن يتمكن أحد من صرف انتباهنا عما هو مهم وحيوي، حتى لو تم تقديم ما هو تافه وفارغ بقالب من التشويق والإثارة، وبهذا لن نكون المشاهد بل سنكون قلب الحدث ويد التغيير والمتابعة متى ما احتاج الأمر لذلك. نريد أن نعيد للثقافة المتنوعة دورها كي نخلق مجتمعا بفكر منفتح دائم التساؤل والبحث، يحاور ليفهم ويشارك ليبني، وليس مجتمعا إسفنجيا يمتص كل ما يرش عليه ومن ثم حسب الحاجة يُعصر!

للتوضيح أكثر؛ المشكلة ليست فيما نشاهد أو نتابع بقدر ما هي أننا نشاهد ونتابع، ولأننا نشاهد ونتابع وجب علينا أن نفكر كيف نشاهد وكيف نتابع، وهنا يكمن أول الخيط؛ إدراكنا لكيفية التعامل مع أي معلومة أو حدث بقدر كاف من الوعي والمسؤولية! لنسأل أنفسنا: متى ولماذا توقفنا عن التفكير؟ لماذا أكثر ما يشد انتباهنا هو ما يضحكنا وما يغضبنا وما يبكينا؟ لماذا سمحنا بأن يتم تحريكنا من خلال المشاعر؟ أدمنا التسلية والترفيه؛ نضحك ولا نعرف لماذا نضحك، نغضب ولا نعرف ما الذي أغضبنا، بتنا نُحرك من خارج أنفسنا إلى داخلها! لو أننا فعّلنا التفكير قد نجد أن ما يضحكنا كان يجب أن يبكينا، وما يبكينا كان يجب أن يغضبنا، وما يغضبنا كان يجب أن يضحكنا.. إلخ! أصبحنا نسعى إلى الإثارة والتشويق وهذا ما جعلنا عرضة للاستغلال من قبل كل صاحب أجندة أو من يبحث عن الربح المادي!

كيف ستنتهي ثقافتنا إن بقينا على عمانا؟! بيد من ستنتهي هويتنا؟ نؤمن بأننا نعلم بينما الواقع يشير إلى أننا نعلم ما يراد لنا أن نعلم! لنبتعد عن نظريات المؤامرة وكل ما شابه ذلك ولنركز هنا على أن القضية هي مسألة استغلال من أجل الربح المادي أو الشهرة أو الضم إلى مدرسة فكرية معينة؛ بمعنى لا تفكر نحن نفكر عنك، لا تختار نحن نختار لك، هذا ما تحتاجه وهذا ما سيشعرك بالسعادة والراحة لذا ادفع لكي تحصل عليه! لنواجه الواقع ونسأل من المستفيد من كل فعل تقوم به أو حكم تتوصل إليه؟ إن لم تكن أنت، إن لم يكن مجتمعك، إن لم يكن وطنك، إن لم تكن أمتك توقف لتفكر وخذ كل الوقت الذي تحتاجه ثم اتخذ قرارك!

إن الوعي؛ لحظة الاستيقاظ والتنبه، يأتي أولا ثم يأتي التغيير، متى ما أدركنا خطورة المرحلة التي نمر بها، وكل ما تعرضنا له من برمجة فكرية ووجدانية، وكيف سمحنا لها أن تتحكم بنا تدريجيا منذ بدء ظهورها؛ بأن تقود كيفية تأثرنا وتفاعلنا مع كل حدث تم بثه إلينا، حينها وحينها فقط نستطيع أن نناقش بموضوعية وعلم الطرق التي تم استخدامها للتأثير علينا ومن ثم نبحث عن سبل العلاج أو الحلول! نربد أن نعود إلى مجتمعات تنشد العلم والمعرفة لا التسلية حتى الموت؛ ثقافة وهوية! إنه تحدٍ يجب مواجهته لكي نُعد أجيالا تقود ولا تقاد، وفي الوقت نفسه نعمل على معالجة الخلل الذي تسلل وانتشر؛ بذات الوسائط التي استُخدمت.