أن تقضي ثماني ساعات من يومك في بيئة لا تضيف إلى إيجابيتك جرعات، ولا إلى استقرارك النفسي محصولا ناضجا شهيا من أرض خصبة، فأنت في موقد لا تحسد عليه، وأيام لن تخرج منها إلا بعلل تذكرك بما يجدر بك نسيانه. تأثيث هذه الجغرافيا وتصييرها على النحو الذي هي عليه، هو فعل إداري لا ينفك عن متخذيه الذين يؤثرون في المكان ويسهمون، إلى حد كبير، في زرع بذور الراحة أو نقيضها في ذوات الذاهبين والآيبين من وإلى مقار أعمالهم.
أحد الذين يفرغون الأمكنة من حياتها مديرون لا يرون إلا أناهم المنتفخة. يباهون بقبضة لا تترك شاردة ولا واردة، ويمعنون في طلاء الهواء الذي يشمه الموظفون بلونهم، مفسحين المجال أمام نرجسية تغالي في استعراض عضلاتها باستمرار، إذ لا ينقصها المسرح ولا المشاهدون!
الحريص على سلامته المعنوية لا يحبذ الطرق على باب مديرين كهؤلاء، لأن طاقة سلبية تلف المكان، وتدفع المرء إلى التفكير مرات عدة قبل إلقاء التحية ولقاء ملامح لا تشك في جدوى الانفصال شعوريا عن متأبطي حاجاتهم. وجوه يقطفها الصباح، إراقة مائها غاية تكتفي بنفسها وبالمشهد المعتاد المتخفف من أي وقفة مساءلة، كأنما تربيتهم "الإدارية" لا تستقيم دون تغييب للنقد وإعلاء مبالغ فيه للمصطنع من الهيبة، ومطالبة مضمرة حينا، وصريحة حينا آخر، بضرورة الامتناع عن تصويب أي قرار تتخذه الكاريزما أو كرسيها .. لا فرق!
السؤال، بهذا المعنى، يصور كتشكيك ليس في وارد القامة الإدارية الالتفات إليه أو حتى تخيل طرحه؛ كما أنه يضيع الوقت باحتلاله حيزا من المفترض أن يستثمر فيما هو أهم وأكثر التصاقا بالإستراتيجي من الخطط؛ حتى إن الاستفهام عن مركزية المديرين الموصوفة بسرعة البديهة قد توقع السائل - في نظر الحواريين - في شبهة "قيادية" من الأفضل أن ينأى الأخير بنفسه عن شرها.
من قال "الأسئلة مبصرة" -وفق فلسفة المدير السائدة- لم يفكر مليا في بصيرة الإجابات الجاهزة التي تبدأ بـ"لا" ولا تنتهي عندما "تمليه حاجة العمل". والحق أنه، إلى الآن، ليس هناك تعريف جامع مانع لهذه الحاجة، ولا دخل لها بالجدل الذي يدور حول تعريف "الإدارة" وما إذا كانت فنا له مبرراته الذاتية أم علما يمتاز بنصيب وافر من الموضوعية. فما في بطون الكتب شيء، وما يبرزه الدأب اليومي معالم من الصعب نسبتها إلى قدرات فكرية ترتهن إلى المكتوب والغارق في التنظير!
كلما تسنى له الحديث، استدعى أبياتا من شعر الحكمة أو الحماسة، تحض مستمعيه على طلب العلا والنحت في الصخر والحفاظ على روح الفريق. وبطبيعة الحال، فإن لغة كهذه لا يمكن الاستهانة بها وبقدرتها على التحفيز، لكنها تنسى، في غمرة الجو الاحتفالي الذي يحيط بها، أن تعترف بمحورية القاعدة الاستعمارية البالغة القدم: "فرق تسد".
تقريب مجموعات وإسباغ الترقيات عليها، وإسناد مواقع مهمة لغير المؤهلين من أفرادها: أمر لا تخطئه العين. يصح، أيضا، ما يصاحب هذه الامتيازات من أذى حين يأتي وقت التأنيب والتذكير بالأفضال السابقة. الوجه الآخر من العملة، البشع دائما، هو الذي تصبح وتمسي عليه مجموعات أخرى، يتسيد الغضب مفرداتها، وتلح على فكرة الهروب والذهاب بعيدا عن المنشأة وأهلها المرضي عنهم، مقللة من شأن الخاتمة التي تربط الاجتهاد بالمكافأة على الإنجاز. إذ إن قمة الجبل الإداري الذي ترى وتروي عن إحباطاته منغصات مطولة، لا يتسع لها، وليس بمقدورها، لكي تصل إليه، إلا الانضمام إلى المجموعات الأولى؛ ولن يتأتى ذلك، بداهة وأخذا لسنن الظاهرة الإدارية المتناولة، إلا على حساب الأصيل من المبادئ، والثمين من الأهداف. وهذه مأساة أخرى.