في كتابه (قصة الأشراف وابن سعود) تحدث علي الوردي عن أهم عوامل نجاح الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – فذكر لذلك أسباباً كثيرة، منها ما نقله عن حافظ وهبة عندما قال: (لوحظ أنه لم يكن يحب من مستشاريه أن يؤيدوه في كل ما يقول، بل كان يريد منهم أن يصارحوه الرأي)، ثم أضاف الوردي معلقاً: إن ابن سعود يختلف في هذا عن بعض رجال الحكم الذين اعتادوا على تقريب المداحين والمتزلفين، فضاعت بذلك عليهم حقائق الحياة.

ما دعاني إلى كتابة هذا المقال أمران، أولهما: أننا في بداية برنامج التحول الوطني، وأعتقد أن من المهم لإنجاحه أن تكون هناك مصارحة في الرأي، وأن تتسع صدور المسؤولين لسماع جميع الأصوات، فمما قرره علماء الاجتماع أنَّ الشرط اللازم لحدوث التطور هو أن يظهر إزاء الناجحين من ينتقدهم ويعترض عليهم، لأن الإنسان حين يجد من يؤيده ويدعمه في كل ما يقول وما يفعل سيتعرض عمله للقصور ولو كان أنجح الناس! لذا تعمد بعض الأنظمة الديمقراطية إلى إيجاد معارضة صالحة تناكفها وتعترض على بعض قراراتها. أما السبب الثاني فهو محاولة بعضهم تقييد كتاب الرأي وفرض مزيد من الرقابة عليهم، إلى درجة أن بعضهم - ومنهم كتاب صحف - يدعون إلى تشكيل لجان مهمتها الانقضاض على كل رأي معارض لفكرهم ومصادرته، بل تجريمه والتأليب عليه إذا كان مخالفاً لما يعتقدون أنها مسلمات لا يجوز المساس بها، ولا قول الرأي فيها، غير أن هذا الصنف يهون إذا ما قورن بأولئك المتملقين الذين يعتقدون أن المسؤولين لدينا لا يفرِّقون بين الحقيقة والنفاق، وربما سولت لهم أنفسهم أنهم بمهاجمة كتاب أمثالهم سيتقربون إلى صانع القرار، فأصبحوا يقومون بدور المدافع عن كل ما يصدر من آراء مخالفة للرأي العام، فما إن يبدي أحد الكتاب رأياً مختلفاً حتى هاجموه وسخروا منه، بل شككوا في وطنيته وحرضوا عليه، ظانين أنهم بهذا العمل إنما يتقربون إلى المسؤولين ويكسبون ودهم، ولا أدري فلعلهم بهذه الطريقة قد تسللوا إلى بعض المسؤولين الضعاف، ممن لا يريدون الاستماع إلى غير أصواتهم، ولا تعي عقولهم الضيقة أبعد من حدود مكاتبهم، غير أنهم على ما يبدو قد أساؤوا التقدير حين تملقوا الإنسان الخطأ في التوقيت الخطأ فكانت الصفعة مدوية على وجوههم، حين دخلوا على الخط في قضية تعرفة المياه الجديدة وغيرها، محاولين تصوير الكتابة ضدها على أنها من نواقض الوطنية والسباحة ضد برنامج التحول الوطني، بل زايدوا على المواطن البسيط حين طالبوه أن يقتسم التكاليف مع الحكومة، وألا يتضايق من ترشيد الإنفاق! لكن المفاجأة كانت مؤلمة حين أتت رياح التغيير بما لا تشتهي سفن أولئك المداحين، وانحاز ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في هذه القضية تحديداً إلى صف المواطنين ليس ضد جوقة المطبلين فحسب، بل ضد الوزارة نفسها عندما قال في تصريح له الأسبوع الماضي: إن تعرفة المياه الجديدة طبقت بطريقة غير نظامية، وسيتم تصحيحها.

مشكلة البعض أنَّه لا يميز بين الاتفاق مع القرار الحكومي وبين احترامه، ولا فرق في ذلك عنده بين أن يكون هذا القرار متعلقاً بالشأن الداخلي أم الخارجي، مع اعترافي بحق المواطن في أن يبدي رأيه في كليهما، على ألا يصطف مع طرف خارجي ضد وطنه مهما تكن الأسباب، ومن المؤسف أن بعضهم يظن أن من مستلزمات المواطنة أن يكون المواطن في تفكيره نسخة طبق الأصل عن الحكومة، معتقداً أن الاختلاف مع قراراتها ذنب لا يجدر بالمواطن الصالح أن يقع فيه! مع أنه ليس بالضرورة أن يكون رأي المواطن متفقاً تماماً مع رأي الحكومة، لكنَّه في كل الأحوال مطالب باحترامه والعمل به، إذ لا توجد في العالم قراراتٌ حكومية تحظى بقبول تام من جميع مكونات المجتمع، ومع ذلك فهم جميعاً ملزمون بالتقيد بها واحترامها، ومن يخرج عنها يعتبر خارجاً عن القانون.

تحدث الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله- عن تغيير وزاري أُدخِل بموجبه الوزارة لأول مرة في عهد الملك خالد - رحمه الله- فقال: (لا بد هنا من كلمة حق أقولها عن النظام في المملكة، بخلاف بعض الأنظمة الثورية التي كانت تتخوف من المثقفين، والتي كانت تصر على وضع الولاء فوق الكفاءة، لم يكن النظام السعودي يعاني أيّ عقدة في التعامل مع المثقفين، لم يكن هناك وزير واحد من الوزراء الجدد لم ينتقد، خلال فترة الدراسة، الأوضاع في المملكة نقداً لا يخلو من حدّة، ولم يكن هناك وزير واحد لم ينجرف، خلال مرحلة من المراحل، مع التيار القومي الناصري الثوري. عندما رجعنا إلى المملكة لم نجد في المطار (لجان استقبال) تأخذنا إلى (دور ضيافة حكومية). عندما عملنا في الدولة لم يبحث أحد في (ملفاتنا) - أعتقد ولا أعلم أنه لم تكن لنا ملفات - كان النظام يفترض الولاء في كل المواطنين، المثقفين وغير المثقفين على حد سواء، هذه الشراكة الحقيقية بين النظام والمثقفين كانت عاملاً هاماً من العوامل التي مكنت المملكة من إنجاز ما أنجزته من معجزات تنموية في فترة زمنية بالغة القصر، إن استمرار هذه الشراكة وتطويرها في العقود القادمة أمر بالغ الأهمية وذو أثر مباشر على استقرار النظام).