يستحق الكتاب أن يحتفى به في يومه العالمي الذي يوافق الثالث والعشرين من أبريل من كل عام، فالكتب -دون غيرها- هي أعز الأصدقاء، وقد صدق الشاعر المتنبي حين اعتبر الكتاب خير جليس في الزمان، إذ لا يمكن أن يبدي الكتاب غضبا أو انزعاجا من كثرة تصفحه أو رميه، أو حتى إهماله، في مختلف الأماكن والأوقات والظروف، يقول الكاتب الكندي -من أصول أرجنتينية- ألبريتو مانغويل: "قضيتُ نصف قرن بجمع الكتب، وبكرم لا حد له، قدّمتْ لي كتبي كل أنواع الإشراقات دون أن تسأل شيئا في المقابل"!

ورغم أن الكتب تجيب دون أن تسأل أو تطلب المقابل، فكل كتاب يمثل "حكاية" لدى مؤلفه، فالقارئ قد لا يعرف الظروف والمراحل التي مرت بالكاتب والولادات المتعسرة للأفكار والأبواب والفصول، ولا يعرف كم من المسافات قطع الكتاب لكي يصل إلى رفّ هذه المكتبة أو تلك، وكم من الجهد الذهني الذي بذل فيه لكي يكون موجودا، وكم من الأيام والليالي التي مضت من أجل أن يكون بحالته الحالية.

وفي تسارع الحضارة البشرية اليوم كواقع نلحظه في شتى نواحي حياتنا، يطغى حضور الكتاب الإلكتروني على الكتاب الورقي، غير أن القراءة تبقى هي القراءة، ويبقى الكتاب هو الكتاب، وإن تغيرت "الآلية" وطريقة العرض، فتأثير الكتاب في المتلقي يعتمد على قدرة الكاتب على السيطرة على زمام اللغة ليقدم ما لديه، فيشبع الميول والاتجاهات والدهشة لدى قرائه.

هنا يمكن اعتبار المكتبة، فضلا عن كونها المكان الجامع للكتب، أكثر الأماكن حميمية في العالم، فالكتاب أهم رفيق إن كان إلكترونيا أو من ورق، وما أجمل أن يكون الأصدقاء حول محبهم في مكان واحد، فرغم الصمت والهدوء الذي يفترض أن يكتنف المكتبات، إلا أنها المكان الحقيقي للصراخ، فهي الأمل الأهم لتغيير العالم مهما كانت حالته سيئة.

ليست المكتبة مكانا للقراءة، بل هي مكان للسفر، ومن يعتبرها مكانا للانفراد والعزلة لا يدرك المعنى الدقيق للتجول في العالم من خلال فكر الإنسان وحضارته وآماله وآلامه الواسعة، فالمكتبة تتيح لمرتادها أن يسافر من مكانه، وأن يغوص في أعماق البشر والحضارات والثقافات والعقول، كما تتيح له أن يكون "صوتا" من خلال القراءة أو الكتابة.

لا أدري من قال إن منزلا بلا مكتبة هو مكان ميت، ولكن يؤكد ألبيرتو مانغويل ما هو أكثر من ذلك بالنسبة للكاتب، ويقول: ثمة فرق بين الغرفة الكبيرة التي يحتفظ فيها بكتبه وبين الغرفة الصغيرة، حيث يعمل -وعمله هنا هو الكتابة- ففي الغرفة الكبيرة يجلس ويقرأ ويدوّن الملاحظات ويراجع الموسوعات، ولكن في الغرفة الصغرى -التي يعتبرها مكتبته- فإن الكتب المختارة هي الكتب الأكثر حميمية بالنسبة له كما يقول، منها نسخ من كتب مهترئة، ويؤكد أن هذه الكتب هي امتداد لذاته ككاتب، ففي الوقت الذي يتطلب منه أن يعمل في غرف أخرى دون هذه الكتب فإنه يحسّ بالعمى وفقدان الصوت نظرا لغيابها!

ورغم أن المكتبة الخاصة (المنزلية) تتطلب الخصوصية التي ذكرها مانغويل بالنسبة للكتب، إلا أنها أيضا تتطلب ميزات إضافية تتعلق بصاحبها، فعلى المستوى الشخصي أحتفظ ببعض الأشياء التي جلبتها من دول مختلفة، وأشعر أنها جزء من المكتبة التي هي جزء مني.

أما مانغويل فيقول: في مكتبتي أحتاج أيضا إلى تعويذات معينة تغمر منضدتي لسنوات طويلة، أداعبها بذهول وأنا أستدعي الكلمات حين أكتب. وكان علماء عصر النهضة ينصحون بالاحتفاظ بأشياء مختلفة من الكتب، كالآلات الموسيقية، والفلكية، والأشياء النادرة، لإضفاء التنوع على المكان.. وقد اتبعت نصائحهم إلى حد ما.