من المعروف أن هناك دولا حريصة على تصدير لغاتها وتوسيع عدد المستعملين لها في أرجاء العالم. رغم البعد الثقافي والمتعلق بالهوية لذلك الحرص في بعض الأحيان، إلا أن الدافع الأبرز لذلك دافع اقتصادي في حقيقة الأمر.

بحسب (فلوريان كولماس) في كتابه (اللغة والاقتصاد) لدى وزارة الخارجية الألمانية قسم "لترويج اللغة الألمانية" يخصص حوالي نصف الميزانية الثقافية لوزارة الخارجية لإعانات التصدير اللغوي. رغم هذا فإن إنفاق الجهات السياسية الألمانية على تصدير اللغة لا يوازي إنفاق نظيراتها الفرنسية التي تمول عبرها الحكومة بسخاء برامج دعم اللغة الفرنسية في أكثر من 100 بلد. كذلك دعم اللغة الروسية الذي يشمل إعانات الدولة برامج تعزيزها في الدول السوفيتية السابقة أو تلك الدول التي انتمت إلى حلف وارسو في السابق. بل إن اللغة الإنجليزية التي تعد أكثر اللغات انتشاراً في العالم ما زالت تحظى بالإنفاق الحكومي، فالولايات المتحدة تستخدم 5 هيئات على الأقل لترويج الإنجليزية وهي وكالة التنمية الدولية، ووكالة الإعلان الأميركية، وفرق السلام، وإدارة الدولة SD، وإدارة الدفاع DD، وكذلك تفعل إسبانيا التي خصصت عام 1991 لتنفيذ "مشروع سرفانتس" لخدمة اللغة والثقافة الإسبانية حوالي 75 مليون دولار.

بما أنه لا يمكن تصور أداء أي فعل تجاري دون لغة تواصل بشرية، فذلك يعني أن الزيادة في عدد المتكلمين بأي لغة لا بد أن ينعكس على أهميتها وقيمتها الاقتصادية. كما أنه يؤدي بشكل من الأشكال إلى تقريب طرق التفكير وتوجيه كثير من المصالح في نفس الاتجاه. كما أن ترويج لغة أي دولة ينعكس على شيوع سلعها ومنتجاتها بسبب يسر التعامل معها على صعيد التجارة أو حتى صعيد الاستهلاك. كما من المهم التنبه إلى تتابع الفوائد وفق طريقة "كرة الثلج"، وهو مفهوم اقتصادي يعني أن أهمية أي سلعة أو خدمة تتناسب طردياً مع عدد المستعملين لها بشكل مستمر، فاتساع قاعدة المستعملين للغة معينة يساهم في زيادة أهميتها مما ينعكس بالتالي عليها كسلعة بحد ذاتها، أي أن ما تنفق عليه من أجل ترويجه في البداية سيتحول إلى استثمار بحد ذاته بعد تثبيت أركان جدواه الاقتصادية. وهذا ملحوظ بشكل واضح في اللغة الإنجليزية الآن التي أصبح تعليمها بمثابة السلعة التي تقدمها كثير من البلدان منها دولة الفلبين الآسيوية نظراً لأسعار معاهدها المنافسة في ذلك.

اللغة العربية تتكئ بالفعل على الكثير من عوامل القوة مما يجعل الجدوى الاقتصادية لترويجها سهلة التصور وقريبة التناول. فليس بخافٍ على أحد أهميتها المستندة على البعد الديني لدى مئات الملايين من المسلمين الموجودين في العالم كله. إضافة إلى تاريخها العريق في التأثير الثقافي الذي قلما تخلو منه لغة أتيح لها فرصة احتكاك سابقة بها.

في المقابل فإننا لا نرى الجهد الكافي من الحكومات العربية نحو خدمة هذه اللغة أو العمل على نشرها وفق برامج وخطط إستراتيجية، عدا ما تفعله بعض المؤسسات الدعوية الدينية في أنحاء من آسيا وإفريقيا. ولعل هذا ناتج عن عدم استحضار البعد الاقتصادي كعامل محفز في هذا الشأن.

من المفارقات الملحوظة بهذا الخصوص استقبال دول الخليج عددا هائلا من غير العرب وبقاء بعضهم بيننا لسنوات طويلة دون تحقيق أي درجة معقولة من الاندماج اللغوي، بل إن الكثير منهم لا يعودون إلى بلدانهم بغير بعض المفردات المكسرة البائسة. في نظري أن وجود هؤلاء بيننا يعد فرصة منخفضة الكلفة للترويج للعربية لو أدير بشكل جيد. علينا فقط أن نتصور الأمر لو أن كل فرد من هؤلاء الإخوة عاد إلى بلاده بحصيلة لغوية حقيقية تجعل منه جسراً ثقافياً مستقبلياً. كيف سينعكس ذلك على التقارب التجاري الخلاق، وعلى تقليص المسافات التي تستهلكها حواجز الترجمة، وأخيراً كيف سينعكس ذلك على أهمية اللغة العربية والناطقين بها والوزن الذي سيشكلونه سياسياً في العالم.

من الاعتراضات المتوقعة على مثل هذا الطرح قول أحدهم إن هناك في الميزان الاقتصادي للغات ما هو أهم من عدد المستعملين، وهو عدد ما تسهم به البلدان الناطقة بها من إنتاج حضاري وتقني، فما فائدة توسيع عدد المتكلمين بلغة معينة دون أن تستفيد منه سلع تقوم على اقتصاد تصنيعي في الأساس؟

لهذا الاعتراض وجاهته، ولكن المعتبر في لغة الاقتصاد هو موازنة الأعباء بالعوائد، وبما أن نشر اللغة العربية كما هو ثابت بالتجربة لا يواجه الأعباء التي تواجهها كثير من اللغات فإن التأخر في استثمار ذلك غير مبرر، بل لعل في المبادرة إليه ما يكفل خلق الفرص وتسارع النمو في الأوجه الاقتصادية الأخرى وليس الوجه الصناعي استثناء من ذلك على كل حال، فطبيعة النمو الاقتصادي طبيعة متضافرة حيث ينعكس صعود أي مورد على رخاء الموارد الأخرى في أغلب الأحيان.

أهمية خدمة العربية لا تقوم على مجرد قصائد تتغنى بالهوية كما يزعم البعض، بل أيضاً على لغة المصلحة التي تتعاطى معها أغلبية الناس.

فهل هناك فرصة لإعادة النظر والبدء في توجه حقيقي وفاعل؟.