المملكة تملك من المقومات الضخمة ما يحفزها لأن تحاول أن تكون في مقدمة الدول المؤثرة دولياً، مثل مكانتنا البترولية (إنتاجاً وتصديراً واحتياطيات) ومكانتنا الدينية (وجود الحرمين الشريفين وكونها قبلة الأمة الإسلامية في مختلف قارات الدنيا) ومثل حجمنا وموقعنا الجغرافي، وتاريخنا القريب والبعيد، وسلوكنا الدولي المحترم وعلاقاتنا الطيبة مع كثير من دول العالم، وغيرها من المقومات الأخرى، ولا شك أن قيادتنا تعي ذلك جيداً، وتعتمد عليه، وتستثمره، في إصلاحاتها الداخلية، وجهودها الخارجية، وأدلة ذلك ونتائجه كثيرة آخرها اختيار خادم الحرمين ثالث أقوى شخصية دولية حسب مجلة "فوربس" الأميركية.
لكن لاشك أن لدينا معوقات شديدة تحد من مسيرتنا الحضارية وتعرقلها أحياناً، بعضها قوية ومؤثرة للحد الذي يجعلها تقف في وجه المسيرة فتعيقها من الأمام وتحاول وقفها أو إبطاءها، مثل الوقوف في وجه مسيرة التعليم قديماً على عهد الملك فيصل، وحديثاً بالتأثير الشديد على مناهجه وتأخير تطوره ومواكبته للمستجدات الحضارية المستمرة، ومثل ما قامت به خلايا القاعدة سابقاً وما تقوم به حالياً وهو ما يؤدي إلى تشويه صورتنا، واستجلاب العداوة لنا، وغيرها من المؤثرات القوية التي نستنزف طاقاتنا في مقاومتها ومحاولة التغلب عليها. وهناك معوقات مع تأثيرها فهي أقل شأناً ولذلك يأتي تأثيرها ليس بالوقوف أمام المسيرة لإعاقتها ولكن بالاحتكاك بها من الخلف فينتج عن ذلك بعض المشكلات التي تحد من الحركة للانشغال بها، ومن هذه المشكلات ما أثارته فتوى تحريم عمل المرأة في أجهزة محاسبة العملاء (كاشيرة) في بعض الأسواق الكبيرة التي قد تكون صادرة عن حسن نية وإخلاص في المقصد ولكن هذا لا يكفي لاعتبارها في مصلحة الأمة والمجتمع.
عمل المرأة في الأسواق موجود ومقر خلال تاريخنا الإسلامي المديد، وخلال تاريخنا القريب والمعاصر، فقد كانت المرأة وما زالت تجلس أحياناً في ممرات الأسواق وعند أبوابها، وتبيع في (بسطتها) فتقوم بدور البائعة والكاشير، وكانت معرضة للاحتكاك والأخذ والرد في الحديث وكانت تجلس أحياناً في أماكن منزوية، ولم يكن ذلك يلفت نظر أحد، ولا يعترض عليه أحد لأنه يدخل في باب طلب الرزق المباح، بل المشروع والمطلوب، ولذلك فمن اللافت أن يتم الاعتراض الآن على عمل المرأة (كاشيرة) في تلك الأسواق الكبيرة الآهلة بالمتسوقين الذين أغلبهم من النساء.
أريد أن أعود بذاكرة أصحاب الفضيلة الموقعين على فتوى تحريم عمل المرأة (كاشيرة) في الأسواق الكبيرة، وهم لا شك يذكرون، أو أغلبهم على الأقل.. أريد أن أذكرهم بصفوف النساء الشابات (في عهد الملك فيصل والشيخ محمد بن إبراهيم) اللاتي كن يجلسن في (المقيبرة) بمدينة الرياض أحياناً مصطفات وأحياناً فرادى لبيع بعض الملابس وبعض المواد الغذائية، ولم يكن هذا يلفت نظر أحد مطلقاً، مع أن وضعهن كان أكثر مدعاة للاحتكاك والنقاش لما يتطلبه هذا العمل من مساومة على السعر، ولقلة المتسوقين الذين أغلبهم من الرجال، فهل يمكن مقارنة تلك البائعة الشابة التي كانت تجلس في المقيبرة وحدها تعرض بضاعتها على الرجال وتحاول جاهدة تسويقها بتلك المرأة التي تجلس على كرسي (الكاشيرة) في سوق يعج بالمتسوقين الذين أغلبهم من النساء، ولا تحتاج لتبادل الكلام مطلقاً مع الزبائن، بل تسجل الأسعار وتضرب الآلة الحاسبة لتخرج جملة ويراها الزبون أو الزبونة فيخرج الثمن ويعطيه لها..؟؟
في رأيي أننا سنظل نتعرض للكثير من تلك الإعاقات التي تثير المشكلات في مؤخرة مسيرتنا الحضارية في محاولات لإعاقة المسيرة ظناً ممن يفعلون ذلك أننا سائرون إلى الدمار والخراب، وهذا ليس جديدا، وسيظل موجوداً، وفي رأيي أن قادة الرأي والعمل والقرار لن يسمحوا لمثل هذه المحاولات بإعاقة المسيرة بل سيتعاملون معها كما تعاملوا مع الكثير من المشكلات المثارة في تاريخ مسيرتنا.
الفتوى الصادرة بتحريم عمل المرأة (كاشيرة) موجهة لمن طلبها، وبتلك الأوضاع والكيفية الموضحة في السؤال، وهي بهذا تخص السائل وبإمكانه أن يعمل بها، فالفتاوى آراء في الأحكام الشرعية مبنية على طبيعة الأسئلة، ولذلك تختلف الفتاوى في الشأن الواحد إذا اختلفت الأسئلة، ومما يؤكد هذا أن عمل المرأة في الأسواق سبق أن أباحته فتوى صادرة من لجنة الإفتاء نفسها التي أصدرت فتوى التحريم الأخيرة، وكان ذلك على حياة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وبرئاسته وكان ذلك إجابة على سؤال مختلف في أسلوب صياغته، وقد نوهت لهذا صحيفة الرياض في عددها يوم أمس.
وإذن فالفتوى تخص المستفتي أما بالنسبة للأسواق والعاملين والعاملات فيها، أي بالنسبة للمجتمع ككل فهذا تحكمه الأنظمة التي تصدر من الحكومة ممثلة في الأجهزة المختصة وعلى رأسها مجلس الوزراء، وليس من حق أحد حتى لو كان جهازاً حكومياً أو حتى مسؤولاً حكومياً رفيعاً أن يطالب أحداً بالامتناع أو الامتثال لأي توصية ما لم يكن هناك نظام صادر بهذا من جهاز يملك صلاحية إصدار النظام، وهذا في رأيي واضح، ولهذا أنوه بالمقالة الجميلة لأخي قينان الغامدي يوم أمس التي أبانت ذلك بسلاسة ووضوح، وأضم صوتي لصوته في الرجاء من إخوتي الكتاب توعية الناس لهذا الأمر الهام.