بعد كل عمل إرهابي، تعلو أصوات يمينية في الغرب للتحذير من "الخطر الإسلامي"، حتى قبل معرفة الجهة الفاعلة. يبدو المشهد، لفرط تكراره، على قدر كبير من الوضوح؛ إذ الصورة التي لا تتغير هي "جوهرانية العنف" في التكوين الديني لدى المحرضين والمنفذين والذي يصوغ بدوره مقاومة لمُعاش المجتمعات المُستهدفة، يحلُّ الدمُ فيها خاتمةً تتوهم بدايةً نقيّة. خُلاصةٌ كهذه تستدعي مقولات "استشراقية" بالغت في تصنيم المجتمعات الإسلامية، وأخذت على عاتقها إظهار ما تعتقده بوناً شاسعاً بين سياقين تاريخيين لأحدهما ثورةٌ في"التسامح" وللآخر دعوةٌ لـ"التطرف". فمنذ الحروب الصليبية (1096-1487) شرع مفكرون غربيون مؤيدون لها في رسم صورة عن الإسلام كدين يتأصل فيه "العنف وعدم التسامح، ولم يكن قادراً على تأسيس ذاته إلا بالسيف" (كارين آرمسترونج، تاريخ موجز للإسلام، ص179). وهي صورة لها محازبوها في القرن الواحد والعشرين، وتستعينُ بمعناها لافتات أحزاب يمينية في أوروبا، وتُشكلُ أحدَ أعمدةِ حملةِ مرشحٍ للرئاسة الأميركية هذه الأيام.

ملمح آخر تبدى في مقولات عدة، تقرن غياب التسامح بعدم ملاءمة المجتمعات الإسلامية لضروراته، وتفضيلها العيش بعيداً عن قيم الحداثة، على الرغم من الجهود "المُبشرة" بنفعها، لقرنين من الزمان. ومن أسف أن كثيراً من منتجات هذه الحداثة أبانت عن أشكالٍ مختلفة من الهيمنة، وغلَّفت نهمها التوسعي في القرون الثلاثة الأخيرة، بعناوين برّاقة تُشْهَر، حتى اليوم، لتُريح "الضمير المُستعمِر" من مسؤوليته عن عذابات البشر المستعمَرين والبلاد المنهوبة والتاريخ المكذوب عليه. كما أنها منتجات، في فتراتٍ ووقائع لم ينل منها النسيانُ بعد، تحتفي بالغزو أو تدِّرب عليه، وتسكنها رغبة قويّة في إشاعة نمط حياةٍ يُظن أنه الأمثل و"المنقذ من الضلال".

برنارد لويس، المستشرق البريطاني المعروف، على سبيل المثال، والذي وضع كتاباً، يمكن استدعاؤه في سياقٍ كهذا، عنوانه:" أين الخطأ؟ الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط"، قدّم خدمةً "استشاريّة" لفريق البيت الأبيض، قبيل أن يتخذ سيّد الأخير ج. د. بوش قرار غزو العراق. فقراءة لويس، حين سؤاله عن "مستقبل العراق" بعد الغزو، المُفكَّر فيه آنذاك، تنبأتْ بحياةٍ هانئةٍ في عراق ديموقراطي تعددي بعد عقودٍ من الديكتاتورية. وهو عراقٌ يولد، على هذا النحو بحسب لويس وأضرابه، لأن رسالة أميركا تقتضي، إلى جانب القضاء على أسلحة الدمار الشامل، خلق أنموذج يحمل دول المنطقة على الاقتداء به! ولا داعي، بعد كل ما مرّ بنا، منذ ثلاث عشرة سنة، للتأكيد بأن العراق ذهب أدراج رياحٍ إقليمية، وعِيثَ فيه فساداً، ونخرت الطائفية أركانه.

تفجيرات بروكسل الأخيرة، وقبلها ما وقع في مدنٍ أوروبية وأميركية، أشارت إلى اِلتقاء مصالحَ بين الفاعلين، المنضوين تحت لواء "داعش"، والفاعليات اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة التي أخذت وجود الأجانب، والمسلمين منهم خاصة، مأخذاً رُهابياً. وما عُدَّ، سابقاً، خوفاً عند فئات لا تصل إلى مستوى أكثري، من التوسع الديموجرافي ومستقبل أجيالها في سوق العمل و"شرقنة" الغرب ثقافياً، أضحى هذه الأيام دعوات صريحة لمنع المسلمين من دخول أميركا، وامتناع دول عن تقديم يد العون للاجئين السوريين، وتزايد حالات الإساءة اللفظية أو الجسدية ضد مسلمين وعرب مقيمين في الجزء الشمالي من الكرة الأرضيّة. وكما يشير خبر نشره موقع قناة CNN الإخبارية، في الحادي عشر من سبتمبر 2015، أن ذات العام، وعقب تفجيرات باريس وسان برناردينو، سجل رقماً قياسياً في "تخريب الممتلكات والمضايقات والتهديد وعرقلة المساعي الرامية لإيجاد أراض تبني عليها الجالية الإسلامية مساجدها". كما أن قصصاً يرويها أصدقاء ومقربون، ما زال بعضهم يُكمل دراسته في أميركا وأوروبا، توضح أن التحدث باللغة العربية في مكان عام له قوةُ تصويب الأعين باتجاهك، ودفعُ المارةِ إلى إسراع الخُطى، ناهيك عن أن رؤية الحجاب قد تُطلق الشتائم العنصرية من عقالها.

بين المسلمين مُجرمون، ومجموعات من أهدافها العُظمى إزهاق أرواح بريئة؛ والذرائع العُنفيّة التي تُحاك باسم دينهم ليس من العقل ترجمتها إلى اتهامات تطال ملايين البشر، الذين هُم ليسوا كُتلاً صماء، ولم يمنحوا أحداً، من هواة القتل والإقصاء حول العالم، حق تمثيلهم.