على قدر ما أكره التكنولوجيا تمنيت أنها وجدت منذ زمن بعيد.. منذ طفولتي! لقد سمحت لكثير ممن لا يستطيعون التواصل من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأدخلتنا عالمهم وتعرفنا عليهم وفهمنا وأدركنا ما يمتلكونه من جمال داخلي، بل من مواهب كنا خسرناها لولا أن هنالك من اهتم وعمل لتذليل كل تلك الصعوبات وأوصلنا إليهم وأوصلهم إلينا.

عندما شاهدت مؤخرا العمل الإبداعي الجديد لعائلة الرحبانية بعنوان "دعني أسمع صوتك"، حيث يبين ألم أب طفل توحدي وهو يحدثه، متمنيا أن يسمع صوته ولو بكلمة، ورغم كل ذلك يخرج به إلى حيث يذهب الأطفال لكي يعيش طفولته بغير خجل، بل بكل ما يمكن أن يحتويه قلب أبٍ، ومع تتبع المشاهد بدأت تعود إلى ذهني مشاهد مماثلة كنت قد عشتها يوما، بدأت بالبحث عن التوحد، وكلما قرأت وشاهدت أكثر اتضحت بذهني صورته، وعاد إليّ "سليم" بعدما كنت أضعته في دهاليز مظلمة من ذكرياتي!

لا أعلم كم كان عمري، لكن أتذكر أنه كان في سن التاسعة، وجه جميل أبيض البشرة زهري الخدين عسلي العينين ذهبي الشعر، كان كلما يزور خالي بيت جدتي يأتي به معه، لأنه كان لا يجرؤ أن يتركه في المنزل ويحرم جدتي من رؤياه. أذكر الآن كيف كنت أجلس بعيدا وأراقب بغيرة فيض الحب والحنان الذي كان يتلبس كل ذرة من كيان جدتي عند رؤيته، لم يكن يصدر أي كلمة، مفهومة على الأقل، بل مجرد أصوات، ويتحرك بطريقة تدل على عدم تمكنه من التحكم بجسده، لكن جدتي كانت تشعر به وتفهمه وكأنها تصغي للفصاحة كلها! كنت أفكر بنرجسية كيف لمثله أن يكون له عقل وإرادة أو حتى مشاعر! لم يعش بيننا طويلا، فلقد تعرض لحادث أليم وتوفي إلى رحمة الله، وأكثر ما يدمي القلب حقا هو صورة جدتي بعد موته، وكأن قطعة منها ماتت معه! واليوم أؤمن بشدة أنه لو أن تقنيات اليوم وتوعية اليوم عن المرض كانت موجودة لتمكنا من التواصل، وربما كان في بيتنا موهوب نثر إبداعه في عالمنا.

والآن وبعدما قرأت الكثير عن التوحد أقول في نفسي يا إلهي كم عانى خالي من ألم نظرات الشفقة، ومن تعليقات بعض الجهلة حين كان طفله يمر بنوبات التشنج أو الغضب أو الخوف أو الانزعاج من الأصوات التي نسمعها نحن، ونظن أنها طبيعية، ولكنها بالنسبة لهم تدخل إلى آذانهم كالسيخ الناري الحارق! ولكن خالي لم يكن يخجل منه، بل كان يأخذه معه إلى كل مكان حتى أحيانا يصطحبه إلى العمل، هل كان بحاجة إلى مزيد من نظرات الشفقة والتعليقات الجارحة؟ كلا بل لسبب ما كان يشعر بقصر حياة سليم معه، فقرر أن يختزن أكثر زمن ممكن معه، لم يختار أن يكون أبا لطفل توحدي، لقد تم اختياره من الرحمن، ولقد كان لهذه المسؤولية وهذا الألم الممزوج بالفرح عنوان العبد المؤمن الصابر.

تقول أم لديها طفل توحدي: "أحاول أن أتواصل معه لكنه ليس هنا... ليس هنا!"، وأخرى كانت تتساءل قبل أن تعرف أنه توحدي: "ماذا الذي فعلته أو أفعله خطأ؟"، وأخرى تقول عندما تم التشخيص: "رغم الفجيعة والألم، ارتحت! على الأقل لم أعد مشتتة لا أعلم ماذا يحدث لابني!"، كل أحلامهم وتمنياتهم بحياة سعيدة ومثمرة لذاك الطفل الوليد تبددت لحظة معرفة ماذا سيواجهون لبقية حياتهم! كل دقيقة تحتاج لإبداع في طرق جذب انتباهه والعمل على تهدئته عندما تنتابه حالات يريد أن يهدهد نفسه؛ قد يكون إصدار أصوات بأسنانه، أو تكرار بعض الحركات أو ضرب رأسه بالحائط أو ضرب نفسه، ومنهم من يؤذي نفسه بأن يظل يعض أصابعه أو يخدش وجهه بأظافره! أما مجرد إطعامه يعد معركة متكررة، ليس لأنه يكره الطعام بل لأن بعض الأطعمة تؤذي معدته فيرفض الباقي خوفا وهربا من الألم. النوم الطبيعي؟ هذا ما يجب أن ينساه كل من يعتني بهم، سواء كان أبا أم أما، ورغم كل ذلك يتمنى كل منهم كلمة واحدة... كلمة واحدة فقط "أمي... أبي"، بالنسبة لهم يوم سيئ هو يوم سيئ، ويوم جيد هو يوم جيد في انتظار يوم سيئ، وتمر الأيام وتمر السنون، ويتخلى الأهل عن الأحلام والأهداف الشخصية عملية كانت أم اجتماعية، كلها تتوقف... تتجمد، كل الأمنيات تدور حول رعب الموت قبل الابن... من سيعتني به، من سيصبر، من سيتحمل، من سيدفع دم قلبه من مال وثروة إن وجدت ليراه يتحسن ولو قليلا؟!

ولكن هنالك أمل، على الأقل للكثير منهم، فالتوحد أطياف ودرجات حدته تتفاوت من طفل لآخر، وكثير منهم يندمج ويتطور ويعيش حياة طبيعية، ببحث بسيط على جوجل يظهر عدد المشاهير والمبدعين المصابين بطيف التوحد، كما سنجد ما فعلته التكنولوجيا مع الدراسات التي رغم كثافتها ما زالت في أول الطريق، لقد رأيت كيف أنها أسهمت في المساعدة للتواصل كالبرنامج الذي أنتجته شركة "أبل" الخاص بهم على "الآيباد"، فلقد شاهدت أحدهم يقدم دعاية البرنامج وكيف رغم أنه لم يكن يستطيع أن يتحكم بحركات جسده، ولم يكن يستطيع الكلام، تواصل من خلال البرنامج، فاستمعنا لما كان يريد أن يقوله وبماذا كان يفكر، بل إنه تمكن من الالتحاق بمدرسة ثانوية وتخرج! وهنالك الدكتورة "جيل تمبلتون" التي كانت توحدية، فبإيمان ومثابرة والدتها تمكنت من مواجهة التحديات، ومن خلالها تعرفنا على كثير مما يفكر الطفل التوحدي به وكيف يمكن أن نساعده.

ليس أمامي إحصائية عن عدد أطفال التوحد لدينا، لأن الذي وجدتها تشير إلى 250 ألف حالة ظهرت عام 2010 ولم تُحدّث. الذي أعرفه أنه يعتبر بمثابة وباء في أميركا يصاب به طفل من بين كل 86 وليدا، غالبيتهم من الذكور! والذي أعرفه أيضا أن التوعية اليوم في المملكة أفضل من قبل وفي تقدم مستمر من وزارة التعليم إلى الشؤون الاجتماعية إلى الجمعيات الخيرية والمراكز المختصة، والمشاركات التوعوية في الفعاليات الوطنية في ازدياد، آخرها ماراثون للدراجات الهوائية لأطفال التوحد من عدة مناطق في المملكة أقيم السبت الماضي قرب مدينة ثول، قلت توعية وليس عدد المراكز أو المختصين، لأن الموجود لا يتسق مع تزايد الأعداد، هذا عدا الارتفاع المرعب في التكاليف التي ترهق الأهالي.

لنشارك ونطبع بصمة محبة وأمل تخفف عن أطفال التوحد وأسرهم، لن نستطيع أن نحمل عنهم، ولكن بالتأكيد نستطيع أن نحمل معهم، مساندة وتفهما وتقبلا.