تعمدت هذا العنوان لأنني أضع القارئ في ذهني وأنا أكتب وأتتبع السبل التي تقودني إلى جره واجتذابه لقراءة فكرتي والتعاطف معها والتعليق عليها بالتأييد أو الاعتراض أو الإضافة.
وأجدني في موضوع السعودة مندفعا لإلقاء الملامة على الشاب السعودي الذي نشأ في مجتمع ريعي تعوله الدولة وتطوقه كثير من أعراف العيب وعادات قد استجدت مع الطفرة والوفرة التي دفعت كثيرا من الأسر السعودية للدخول إلى نفق المظهرة والفشخرة على النحو الذي رسخ في الأذهان أن الحرف اليدوية والأعمال التي يتولاها ذوو الياقات الزرقاء هي من سقط المتاع ومن الوظائف والمهن التي لا تليق بمقامهم، وكلنا نعلم أن هذه النظرة الاستعلائية ما كانت موجودة -منذ عقود مضت- أيام اقتصاد الندرة والشح وقلة الدخل ونعلم أن الظروف الاقتصادية هي التي تشكل ميزان العيب والحاجة بحسب التغير زيادة أو نقصا، لكن لا يجب ترك الأمر وأعني ترفع الشاب السعودي عن الانخراط في كثير من الأعمال والحرف المهنية معلقا على الظرف الاقتصادي، ذلك أن كثيرا من التشريعات والقوانين كفيلة بتغيير المسار ونظرة المجتمع لما هو داخل تحت نطاق العيب أو الحرف الوضيعة، كما سيدعم هذا الهدف ضرورة قيام المشايخ من العلماء وخطباء المنابر بالتوجيه الديني الذي يحث على أن اكتساب الرزق أولى من الركون إلى قيود العادات والأعراف التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويشترك التعليم المبكر في ترسيخ فضيلة العمل الشريف لدى الأطفال منذ الصغر.
يشير الأستاذ جمال خاشقجي في كتابه النوعي "احتلال السوق السعودي" إلى أن ما نسبته 70% من الجرائم والقضايا وراءها مخالفو الإقامة ثم العمالة المقيمة، وفي هذا التصريح المنسوب لنائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشورى إشارة مبطنة إلى شيء من مخرجات سيطرة العمالة المخالفة على السوق المحلي ويعزز كثير من التجار -بحسب الكتاب- من النظرة السلبية لسمعة الموظف السعودي، ويدعو الكتاب إلى مواجهة قضايا التستر على الوافدين والتحيز ضد السعوديين بشيء من القوة والحزم وتجريم قضايا تهريب العمال أو التستر عليهم وتشكيل جهاز سري لمراقبة ذلك التجاوز ومكافحته ومواجهة قضايا التحيز من المقيمين ضد السعوديين، وثم يلخص الأستاذ جمال خاشقجي فكرة الكتاب بشكل مجمل في التالي:
"كي نحل أزمة البطالة في المملكة يجب أن نعترف أن وضع بلادنا "غير طبيعي" فيما يخص العمل والعمالة وبيئة التوظيف، فالوضع الطبيعي هو ما نراه في تركيا أو فرنسا أو مصر وليس ما نراه في دبي أو الدوحة، فعندما تدخل صيدلية هناك ستجد مواطنا يخدمك فيها. هذا في تركيا وفرنسا ومصر، وكذلك سائق التاكسي والبائع والحلاق وعامل البناء ومدير الصيانة هؤلاء هم الطبقة الوسطى في بلدانهم، يفتحون بيوتا بل يشترونها ويدفعون ضرائب ويعيشون من عرق جبينهم، يشكون بالطبع من صعوبات الاقتصاد ولكنهم في النهاية لا يعانون من البطالة والعوز.
هؤلاء لا نراهم في دبي أو الدوحة، وذلك "قد يكون" بالنسبة لتلك الدول أمرا طبيعيا فتلك "الدول – المدن تتمتع باقتصاد غير طبيعي، فهي تعاني من نقص في عدد السكان مع دخل مرتفع وغير عادي واستثنائي، ما ولد وضعاً اقتصاديا استثنائيا تترتب عليه حلول غير استثنائية. مشكلتنا في السعودية أننا احترنا إلى أي عالم ننتمي؟ إلى دول الخليج حيث اقتصاد "المدينة – الدولة" الاستثنائي أم للدول العادية الطبيعية حيث عدد وفير من السكان منتشرون في مدن مترامية يشكلون معا قواما اقتصاديا شعبيا إنتاجيا.. لقد جلبوا في الخليج العمالة الأجنبية لنقص في عدد مواطنيهم أما في المملكة فلقد أتينا بالعمالة الأجنبية لتحل محل المواطنين!".
لكنني وإن كنت أتفق مع بعض ما ورد في الكتاب إلا أنني لست مندفعاً جداً إلى السعودة التامة، فما زال كثير من الخبرات تنقص الشركات السعودية وخاصة فيما يخص إدارة كثير من مشاريع البنى الأساسية والتحتية، ولعلنا لاحظنا كيف كان مستوى التميز والإتقان في المشاريع التي نفذتها الشركات الكورية أو تلك التي تولتها شركة أرامكو في وقت التنمية المبكر مقارنة بكثير من الخلل وسوء التنفيذ عندما أولي الأمر إلى شركات وطنية تتولى إحالة التنفيذ إلى بواطن الباطن ومن الأعلى إلى الأسفل ومن الأخبر إلى الأجهل، وكان الأولى في ظني -وما زال- هو أن تتولى الشركات الأجنبية الخبيرة مثل هذه المشاريع الرئيسية في عقود محددة تتولى خلالها الإحلال الوطني التدريجي للشاب السعودي، وهذا هو ما نؤمله عند تشغيل مشروع المترو، حيث يجب أن يتم إيلاء أمر التشغيل والإدارة للشركات الأجنبية المنفذة وتدريب السعوديين على اكتساب مهارة تنظيم الرحلات والتذاكر والخدمة قبل وأثناء وبعد الرحلة، فمثل هذه التجارب لا تكتسب بعاطفة الانحياز للسعودة وإنما تنجح تبعا للخبرة المكتسبة والممارسة الطويلة في هذا المجال.
وأنا في كل حال ضد الشوفينية العنصرية القطرية التي تخشى الخبرة الأجنبية وتنحاز دون عقلانية إلى المحلية أو السعودة غير المدربة والمجردة من أي خبرة، ولنا في "المصرنة" مثال يجتنب، كما أن التلويح المستمر بشعار السعودة قد يكون مدعاة لتنفير وتخوين المستثمر الأجنبي وإضعاف القطاع الخاص ما قد يسبب خللا وفسادا من خلال رضوخ الشركات والمؤسسات للإلزام بالسعودة والتحايل عبر توظيف وهمي لبعض السعوديين بما يرفع نسبة البطالة المقنعة دون أي قيمة مضافة لاقتصادنا الوطني.
علينا التوجه إلى سعودة المرافق الخدمية والحرفية ومخازن التجزئة وتعزيز فكرة الانتماء إلى اكتساب الرزق من عرق الجبين والعمل الشريف، وتغيير النظرة الدونية إلى كثير من المهن التي يأنفها السعودي، لا لشيء إلا لمجرد أن الاعتماد الكلي على الوافد في هذه المهن قد جعلها في نظر السعودي مهنا منتقصة، فالتركيز على توعية السعودي بالمتغيرات من حوله وما سيشهده الوطن من برامج التحول الوطني سيكفل للوطن الحد من التحويلات المليارية الأجنبية التي تتولى هذه العمالة إرسالها إلى أوطانها، وكان الأولى أن تبقى هذه التحويلات في الوطن عندما تتولى السواعد الوطنية هذه الأعمال.
إن فرض الرسوم والضرائب على هذه المداخيل كفيل بالحد منها، كما أن تغيير الثقافة السائدة تجاه العيب جدير بأن يسهم في الحد من البطالة المقنعة، لكن دون اللجوء والاندفاع نحو السعودة غير المدروسة وخاصة في المشاريع الرئيسية والمستجدة في مسارات التنمية والتي ليس لنا في إدارتها خبرة تذكر، وأقرب الأمثلة على ذلك كما قلت هو إدارة وتسيير مشروع المترو الذي أخشى عليه من السعودة المبكرة التي قد تعرقل هذا المشروع الحيوي.