كثيرة هي التعقيدات التي انبثقت عن الأزمة السورية، وكثيرة هي الأحداث والوقائع التي خذلت أصحابها والواقفين في صفها، ولعل واحدة من أبرز هذه الحالات هي تجربة المناطق المحررة، ففي بدايات الثورة السورية كان الثائرون جميعاً يحلمون بالتحرر من نظام الأسد، وكان الطموح والتوقع أن يسقط النظام ويتنحى الأسد أو يُعزل، كما حصل في تونس ومصر، وتبدأ دورة حياة سياسية جديدة في سورية بعد التخلص من الديكتاتور، ثم ومع تعقد المشهد وتشكيل الجيش الحر، وبدء تحقيق انتصارات على النظام في مناطق سورية مختلفة، صار حلم الثوار أن يتم تحرير المناطق بالتدريج وصولاً إلى العاصمة، أي انتقل المسار من نزع قلب النظام وبقاء الجسد السوري واقفاً، إلى تقطيع أوصال الجسد وصولاً إلى القلب.

وهكذا بدأت تجربة المناطق المحررة، وهي مدن وقرى لا وجود فيها مطلقاً لأي قوة من قوى النظام، وهي كانت تمثل الحلم الكبير للثوار السوريين والمعارضين وغالبية الشعب السوري، لأنها ستكون بداية التحرير التام، وقبل ذلك لأنها ستكون الملجأ والملاذ الآمن لكل معارض للأسد، ولأنها ستكون النموذج المأمول لسورية الجديدة، وقتها كنا نتخيل أن أهل دمشق وحلب وحتى أهل طرطوس واللاذقية حين يرون الحياة الديمقراطية التي نعيشها في الرقة ستشكل دافعاً لهم لينقلبوا على الأسد، وليطمئنوا إلى مستقبلهم في سورية الجديدة.

وكانت الخطة طموحة لكنها طبيعية ومألوفة، فتحرير البلاد بطريقة القضم أمر حصل مئات المرات عبر التاريخ وفي أماكن كثيرة من العالم، وتشكيل نموذج على قسم صغير يصبح قدوة للأقسام الكبيرة وحافزاً لها أيضاً تكرر في التاريخ بطرق مختلفة، لكن التعقيد الإضافي الذي أضيف إلى المشهد السوري، تسبب في تنوع هذه المناطق المحررة، وتنوع القوى المسيطرة عليها، وتبدل هذه القوى بحسب ظروف المعركة. ولكن نقطة الالتقاء الوحيدة التي اجتمعت عليها جميع المناطق المحررة هي أنها جميعاً لم تحقق حلم السوريين، ولم تستطع أن تشكل النموذج المحتذى، ولا الملاذ الآمن للمعارضين الهاربين من بطش النظام.

لم تستطع أي منطقة أن تشكل نموذجاً لسورية الجديدة، إن كان من حيث نوعية القوى المسيطرة فيها، وإن كان على صعيد إدارة الحياة اليومية للناس، وتأمين احتياجاتهم، واحترام خصوصياتهم وثقافاتهم، وإن كان على صعيد تشكيل إدارة محلية منتخبة بطريقة ديموقراطية وتعبر عن رغبات أهالي المنطقة، وكلنا يذكر تجربة الناشطين في توثيق الانتهاكات (رزان زيتونة وسميرة خليل ووائل حمادة ونظام حمادة)، وهم الذين اختاروا الحياة في واحدة من أوائل المدن المحررة في محيط دمشق وهي مدينة دوما، ليتابعوا عملهم في توثيق الانتهاكات بحق المدنيين، ثم اختفوا هناك، دون أن يعترف أحد بمسؤوليته عن اختفائهم، رغم مرور عامين ونصف على اختفائهم، ورغم توجيه أصابع الاتهام "لجيش الإسلام" باعتباره الجهة المسيطرة سيطرة مطلقة على منطقة دوما ومحيطها بالكامل.

ثم جاء التعقيد الأعلى بسيطرة جبهة النصرة ثم داعش على كثير من المناطق التي كان الجيش الحر قد طرد النظام منها وأعلنها مناطق محررة، ودخول هاتين القوتين (النصرة وداعش) أنهى أي أمل لدى السوريين في خلق النموذج المأمول، لأن داعش والنصرة حولتا المناطق التي تسيطران عليها إلى ما يشبه قندهار، وبالغت داعش أكثر بتنفيذ أحكام جائرة بحق السكان المسالمين، وأعدمت المئات منهم لأسباب واهية، وضيقت على الناس أنفاسها، مما جعل أعتى المعارضين لنظام الأسد غير آمن على نفسه في مناطق يفترض أنها محررة من عدوه الأساسي وهو النظام.

وبغض النظام عن الحالة القصوى التي مثلتها داعش والنصرة، فالمناطق الأخرى التي يفترض أن تكون أكثر اعتدالاً، شهدت بدورها أنواعا مختلفة من الصراعات الداخلية بين الأجنحة المقاتلة فيها، وبين الإدارات المدنية فيها، فظلت معظمها تدار عسكرياً، ومن استطاع منها أن يشكل مجلساً مدنياً لإدارة شؤون الحياة اليومية، لم يستطع المحافظة على هذا المجلس إلى وقت كافٍ، فقد تم عزله واستبداله، ثم استبداله مرة أخرى، وغالباً لأسباب لا علاقة لها بأدائه وكفاءته، بالنتيجة لم تنجح أي منطقة حتى الآن في تأمين الملاذ الحلم للمعارضين السوريين الذين توزعوا في أصقاع العالم بحثاً عن بديل، بعد أن ضاق بهم بلدهم نظاماً ومعارضة.

ويبقى الأمل قائماً بأن تتيح سورية لأبنائها فسحة صغيرة تشبه ما كانوا يحلمون به، والمظاهرات التي شهدتها كثير من المناطق مؤخراً، هي من جدد هذا الأمل.