طرق متعددة اتبعها الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح طيلة فترة حكمه، في التعامل مع خصومه من المعارضين والناشطين السياسيين، إذ كان يعمل على تصفيتهم بعد وجبة غداء، بدءا من الاغتيال بالرصاص، وصولا إلى الإخفاء القسري لعشرات السنوات، وانتهاء بدس السم في الطعام، وهو الأسلوب الذي اتبعه مع الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي، الذي دعي لتناول الغداء في منزل الرئيس أحمد الغشمي، قبل أن يغتاله صالح برصاص مسدسه الشخصي.




على امتداد فترة حكم المخلوع، علي عبدالله صالح، والتي استمرت نحو 33 عاما، كانت الاغتيالات والاعتقالات والاختفاء القسري لكل المناهضين له، هي السمات الأساسية لتلك المرحلة الطويلة والمظلمة في تاريخ اليمن، فيما لم يستطع أحد الحديث أو الهمس بتلك الجرائم طوال هذه الفترة، إلى أن اشتعلت الثورة مطلع عام 2011 والتي أطاحت بالمخلوع، وأزاحت الستار عن مسرح عملياته الدموية، لتنطلق بعد ذلك ألسنة اليمنيين بالكشف عما عانوه لأكثر من ثلاثة عقود من قسوة وظلم وخوف وقهر.

فمنذ تولى المخلوع السلطة في اليمن عام 1978، وحتى إقصائه عن الحكم عقب أحداث الثورة، امتلأت صحيفة سوابقه بعمليات الاغتيال لرؤساء ومسؤولين سابقين ومواطنين وشخصيات مختلفة من شرائح المجتمع اليمني، ولم يتوقف عمله الدموي عند ذلك الحد فحسب، بل تطور ليشمل الاعتقالات والاختطافات القسرية والاغتصاب، ولا يكاد يخلو بيت في اليمن من مقتول أو مختطف أو معتقل في سجون صالح، وحراسه المدججون بالسلاح الذين يمارسون القهر والقمع لكل من يخالفه الرأي أو يتحدث عن شخصه أو فساد أسرته، حيث مصيره القتل أو الاختفاء في غياهب المجهول.

ولكن باشتعال الثورة، وإقصاء المخلوع عن الحكم، تنفس اليمنيون الصعداء، وتكلم الصامتون، وظهرت ملفات المختفين قسريا إلى العلن، ليتحدث بعضهم عن مرارة السجن والاعتقال لفترات طويلة، فيما ذكر البعض الآخر أنهم لم يتعرفوا حتى بعض إطلاق سراحهم عن معاقل تعذيبهم، كذلك أين ترقد جثث زملائهم من الذين توفوا في تلك المعتقلات.. وإلى التفاصيل.


نصف قرن من الجرائم

أكد رئيس منظمة المعتقلين والمختطفين قسريا في اليمن عبدالكريم ثعيل إلى "الوطن" أن المخلوع صالح يمارس الجريمة منذ 50 عاما، وأن سلوكه الدموي بدأ منذ أن كان جنديا، حيث كان يمارس الاغتيالات السياسية، وأضاف أن المختفين قسريا الذين ظهروا أخيرا بعد اختفاء دام أكثر من 35 عاما سردوا قصصا مرعبة عن عمليات الاعتقال والتعذيب التي تعرضوا لها بالسجون، مشيرا إلى أن بعضهم خرج من السجون ليجدوا أطفالهم رجالا، بينهم أطباء ومهندسون، وقال "هذه كارثة أحدثها علي صالح في تاريخ اليمن الحديث، إضافة إلى اغتياله أهم الرموز الوطنية، بداية من إبراهيم الحمدي ومرورا بأحمد الغشمي، ولم تتوقف عند علي سالمين، بل وصلت لغيرهم بالإضافة إلى الآلاف الآخرين من المواطنين الأبرياء".





ورقة الحوثي

حسب ثعيل، فإن هناك معلومات تشير إلى أن صالح كان وراء اغتيال الشيخ مجاهد أبوشوارب، وأيضا الناشطين السياسيين، مشيرا إلى أن صالح لم يستطع الاستمرار في الحكم إلا بالتلاعب على ما اعترف به وأسماه "الرقص على رؤوس الثعابين"، وكان يقتل ويغتال ويختطف ويوجه التهم للغير ويطيح برؤوس الأموال الوطنية، وقال "أنا شخصيا أحد الأشخاص الذين اعتقلهم نظام صالح. وما زلنا نشهد حاليا مزيدا من اعتقالات المخلوع، رغم أنه ليس في السلطة، كما أن أعماله الدموية ما زالت متواصلة في ظل أنظمته الاستخباراتية التي كان يتزعمها ابنه وأقاربه من أبناء إخوانه وميليشياته. وأضاف "الحوثي ما هو إلا إحدى أوراق المخلوع، فقد نشأ وترعرع في أحضان نظامه، وما كانت حروب صعدة إلا تدريب للحوثي وتقوية عناصره المتطرفة لتنفيذ أجندة إقليمية ودولية لزعزعة المنطقة العربية وطمس هويتها.


أساليب التعذيب

لفت ثعيل إلى أنه كان أحد السجناء وعندما خرج في نهاية 2011 من سجون الأمن القومي قام وزملاؤه بتأسيس المجلس العام للمعتقلين المخفيين والمختطفين، لافتا إلى أنهم وجدوا قضايا تعذيب مهملة وصل بعضها إلى الموت، مبينا أن جرائم التعذيب تضمنت الصعق الكهربائي، وإدخال المسامير في أجساد المساجين، والضرب بالمطارق، وكذلك تكميم الأفواه بالمخيط، والعبث بالجسد بطريقة هزلية، وأضاف "من الأساليب الأخرى التي اتبعها المخلوع أخيرا بالاشتراك مع المتمردين الحوثيين وضع السجناء والمختطفين في مواقع معرضة للقصف كدروع بشرية".

وتابع "صالح عمد إلى اغتيال كل من يشعر بأنه مصدر وعي لهذا الشعب، سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا، فيعمد إلى تصفيته"، لافتا إلى أنه كان يتفنن في الاغتيالات لإخفاء بصماته، وإن ذلك ادعى لمحاكمته دوليا، وأن يقوم القضاء بدوره في الحصول على حقوق الضحايا ومعاقبة هذا السفاح.




الغداء الأخير

قال نبيل ماجد إن علي صالح جعل من ولائم "الغداء" وجبة دسمة لاغتيال ضحاياه، وقال إنه يقوم وبأسلوبه المخالف لكل القوانين الإنسانية بتقديم دعوة لمن يريد تصفيته، حيث تختلف عملية التنفيذ من شخص لآخر، فقد كانت وجبة الغداء في منزل الغشمي آخر وجبة يحضرها الرئيس الأسبق، إبراهيم الحمدي، لكي يتناول طلقات من مسدس المخلوع، ولكنها لم تكن الأولى ولا الأخيرة، فهو يقوم بدعوة من يريد تصفيته إلى وليمة غداء عنده ثم يموت بعدها بيوم أو يومين أو في نفس اليوم.

وأشار إلى أن اليمنيين كانوا يعرفون مقتل بعض الشخصيات بمجرد حضورهم مأدبة علي صالح، ومن هذه الأسماء البرلماني عبدالحبيب سالم مقبل الذي كان يعمل صحفيا، وكتب ضد سلوك صالح، وقدم له الأخير دعوة غداء ومات بعدها بساعات.

وأشار نبيل ماجد إلى مقتل إمام الجامع والأديب البرادي الذي ألقى خطابا في مهرجان جماهيري أمام صالح، والذي قام باستدعائه لمأدبة غداء، ليتوفى بعدها مباشرة.

وأكد ماجد أن الشعب اليمني يعرف كل جرائم المخلوع صالح، وأنه لم يترك أسلوبا إلا واستخدمه للتخلص من المناهضين له، مستفيدا من كل الأعمال الدكتاتورية القمعية التي عرفت في العالم كله.


الرئاسة أو القتل

أكد رئيس المنتدى الاجتماعي للتنمية، رئيس الشفافية الدولية في اليمن، نبيل ماجد، أن ممارسات صالح وخبرته في الاغتيالات سهلت له اغتيال الرؤساء، بدءا بالحمدي، حيث إن هناك تقارير دولية أدانت صالح في هذه الجريمة، وبعده الغشمي الذي لم تتجاوز مدة حكمة ثمانية أشهر، حتى تم اغتياله لأن المجرم صالح كان يدور حينها قرب الفريسة.

وأضاف ماجد "صالح استغل عملية اغتيال الحمدي والغشمي، وفتح أمامه طريق للسلطة، وحين نفذ هذه العمليات الكبيرة ووصل للسلطة، لم يكن الرجل الثاني ولا الثالث ولا حتى الرابع، بل استطاع تصفية واغتيالات كل من في طريقه حتى وصل الحكم، وبعد وصوله إلى السلطة لم يتورع من جرائمه، بل هدد عددا كبيرا من الضباط والقيادات، وقالها علنا إذا لم أكن رئيسا فسأبيد كل من يخالفني وسيكون مصيره الموت.

وأشار نبيل ماجد إلى قصة رواها رئيس هيئة الأركان الأسبق اللواء الشيبة عندما أراد عزله، مبينا أن صالح أرسل له حقيبة دبلوماسية تحوي مبلغا كبيرا من المال وبجوارها عدد مماثل من الطلقات النارية، وهي رسالة واضحة "إن لم تقبل بالمال سيكون الرصاص مصيرك"، ولذا اختار الصمت والابتعاد عن العمل العسكري.

وأضاف أن صالح بمجرد وصوله إلى سدة الحكم كان على يقين بأن المقربين من الحمدي على محبة وولاء له، مما جعله يقوم بتصفيتهم، سواء الجناح العسكري أو المدني، وتم إعدام الشخصيات العسكرية دون أي محاكمة، فيما شكلت للمدنيين محاكمات صورية، وحتى اليوم يرفض علي صالح الإدلاء بأي معلومات عن مكان إعدامهم أو دفنهم، مبينا أن من بين أولئك وزير التموين الأسبق سلطان القرشي، حيث تم اختطافه وإخفاؤه مع عدد من القيادات، كذلك عبدالكريم عبدالوارث، والرائد علي زهرة، والرائد الشلفي، وكثير من الأسماء الذين لا يعرف أحد عنهم شيئا حتى الآن، بينما ما زالت أسرهم يحدوها الأمل في عودتهم.

وأكد نبيل ماجد أن فترة المخلوع صالح تعرف بفترة الإخفاء القسري والاعتقال، وأن اليمن لم يشهد حالات اغتيالات واختطاف مثلما عاشت فترة صالح، مشيرا إلى أن هذه المحاولات ستستمر حتى يتم الخلص منه.




السجون السرية

أشار ثعيل إلى أن السجون السرية التي يخفي صالح فيها الضحايا تتوزع فوق وتحت الأرض وفي الجبال والمعسكرات وتحت القصور الرئاسية، وهناك سجون سرية في دار الرئاسة تتبع الأمن القومي، سواء في صنعاء أو ريمة حميد وفي صرف وسنحان وبيت قوس وبني مطر وأرحب والحفارش ومناطق أخرى، مبينا أن أعداد السجناء داخلها كبيرة ولا تحصى، كما أن هناك سجونا يشعر فيها النزلاء بضيق التنفس، فقد كانت هذه طريقة المخلوع وأجهزته استخباراتية للتخلص من بعض الخصوم.


يرى والده بعد 35 عاما

المسؤول القانوني في رابطة المخفيين قسريا، رشيد، نجل المختطف أحمد غانم، قال لـ"الوطن" إنه عندما كان عمره خمس سنوات اختطف والده الذي كان يعمل بسلك الدولة برتبة عقيد، وتحديدا في عام 1981، مشيرا إلى أن عملية الاختطاف جاءت في أعقاب محاولة التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري الانقلاب على المخلوع صالح، حيث تم تنفيذ حملات اعتقال واسعة، في أوساط كافة المجموعات التي شاركت في الانقلاب، وغير المشاركة، بكل همجية، ولا يزال معظم الأشخاص الذين ألقي عليهم القبض خلال تلك الفترة، إما محتجزين أو في حالة اختفاء قسري، حتى الوقت الحالي.

وأضاف رشيد "كان والدي أحمد غانم المعروف بـ"المسربة" قرر حينها تسليم نفسه سلميا لقوات المخلوع خشية تعرضه للقتل في حالة القبض عليه، فكانت تلك هي المرة الأخيرة التي رآه فيها أفراد أسرته. ومنذ ذلك اليوم وعلى مدار أكثر من 35 سنة ظللنا نبحث عنه دون أن نجده، وفي عام 1984 سربت إلينا معلومات واطلعنا على قائمة بأسماء سجناء في سجن الأمن السياسي بينهم اسم والدي، ثم اطلعنا على صورة لقائمة أسماء أخرى تفيد بأنه نقل من أحد السجون في التحرير إلى سجن ببلاد الروس، يسمى "سجن وعلان"، وكان ذلك عام 1989، وكذا حصلنا على معلومات بأنه في نفس السجن عام 2003".




دعوات للعدالة

قال رشيد "تقدمنا بشكوى لوزارة حقوق الإنسان ولكن لم نحصل على مذكرة لمخاطبة الأمن السياسي إلا في تاريخ 23 أكتوبر 2012، إضافة إلى الشكاوى والبلاغات للعديد من الجهات الحكومية، مثل مجلس النواب، وأخيرا مؤتمر الحوار الوطني، والمنظمات غير الحكومية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، وطلبنا منهم مساعدتنا في إخراج والدي من السجن، كونه عملا ينافي الأخلاق والإنسانية".

وذكر رشيد أنه بعد توفر المعلومات زار والده عام 2014 بعد مفاوضات سرية وتعاون من أحد ضباط المخابرات برتبة عقيد ويدعى محمد العريج الذي كان يعمل مديرا لمكتب الرئيس السابق لجهاز الأمن السياسي اللواء غالب القمش، وقال "بعد تلك الزيارة تمت تصفية العقيد العريج الذي مهد لي الزيارة في أحد شوارع صنعاء برصاص مسلحين مجهولين يقودان دراجة نارية في 21 أبريل 2014 أي بعد أقل من شهر من ترتيب الزيارة لوالدي".




تغطية العينين

قال رشيد إنه أثناء التوجه للسجن الذي يعتقل فيه والده فوجئ بتغطية عيونه حتى لا يعرف موقع السجن، موضحا أن الزيارة تمت الساعة الواحدة والنصف ليلا، ووجد والده وقد هرم ويغطي ملامح وجهه الشعر الكثيف، ولا يستطيع فتح عيونه إلا بصعوبة شديدة، مشيرا إلى أنه وجد بالسجن عدد كبير من المعتقلين.

وأضاف "استمر لقائي بوالدي نحو نصف ساعة، ولم تكن كافية، غير أنه شعر بأن عقلية والده لا تزال جيدة، حيث سأله عن والدته التي توفيت بجلطة في عام 1997 وكذلك إخوته وأقاربه.

وحمل رشيد مسؤولية اعتقال والده لقوات المخلوع صالح، ورئيس جهاز الأمن السياسي غالب القمش، مبينا أنهم اعتقلوا والده عمدا لأنه كان من المؤيدين للرئيس الأسبق الحمدي، موضحا أن التعامل في المعتقل مع السجناء يتم بكل قسوة وتعذيب، وكل شخص مربوط بالحديد في الجدار، وأحواله وصحته سيئة جدا.


رابطة المخفيين قسرا


أكد رشيد أن هذا الوضع دفع بعض أسر المختفيين قسريا إلى تأسيس رابطة تحمل نفس الوصف في عام 2014، مبينا أن الهدف من تأسيسها تكوين إطار قانوني يتبنى القضية لمعرفة مصائر ذويهم وكشف الحقائق وتقديم المسؤولين عن ذلك إلى المحاكم الوطنية والدولية المعنية بحقوق الإنسان، مشيرا إلى وجود أكثر من 400 عضو بهذه الرابطة، أغلبهم يفقدون آباءهم وأقاربهم. وقال "لم يكن ممكن في حقبة صالح تأسيس مثل هذه الرابطة أو الحديث عن المعتقلين. ورغم خلعه فإن الحديث عن هذا الجانب يظل حذرا، خشية الاغتيالات التي تواجهنا وهناك تهديدات مباشرة لأعضاء الرابطة، كما تم الاتصال بي بعد زيارة والدي وحمل الاتصال تهديدا مباشر بالقتل".




الحرمان من الوظائف


أوضح رشيد أن أبناء وأقارب جميع المختفيين قسريا يحرمون من الوظائف والتعليم بأمر النظام السابق، مضيفا أنه عندما تقدم لإحدى الوظائف وبعد قبوله تم الاعتذار له بسبب أن والده مختطف قسريا، مطالبا المجتمع الدولي بكشف الحقائق ومعاقبة المتسببين في ذلك، خاصة المخلوع صالح الذي تسبب في هذا الأسى للعديد من الأسر.

أكد رشيد المسربة أن يد الظلم والاعتداء والاختطافات لم تقتصر على العنصر الرجالي فحسب، بل وصلت إلى اعتقال النساء، لافتا إلى وجود نساء معتقلات في سجون النظام السابق من الثمانينات، تعرضن لأشد أنواع التعذيب من قبل الأمن السياسي، ومن ثم الاغتصاب وبعد الإفراج عنهن اضطررن للانتحار بسبب ما لحق بهن من تعذيب واعتداءات.