مهما اختلفنا حول بعض الأحكام التي تصدر من القضاء السعودي، والتي يتم نقدها أو دراستها وفحص أسبابها كي يتم إثراء البحث في القضاء والقانون العلمي للارتقاء بالمتخصصين ولمن لهم اهتمام بمعرفة الحقوق وكيفية فهم الحكم القضائي، لأن هذا فن وعلم معروف يُمارس بكثرة في الجامعات البريطانية والأميركية والأوروبية عموما، من خلال المجلات القانونية التي تصدرها كليات القانون، لذا فإنه لا بد أن نُقرر بأن القضاء السعودي يتمتع بكل نزاهة، وأنه ليس لأحد من سلطان على ما يُقرره القضاة في جميع المراحل الإجرائية والأحكام الصادرة، وهذا ما يقرره النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية الصادر بالأمر الملكي رقم أ/90 وتاريخ 27 /8 /1412، في المادة السادسة والأربعين على أن (القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية)، كما نصت المادة الأولى من نظام القضاء الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/78 وتاريخ 19 /9 /1428على أن (القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء)، وهذه ضمانات لاستقلال السلطة القضائية والقضاة في التنظيم السعودي، وتفتخر الدول المتقدمة باستقلالية قضائها وقضاتها، توفيراً للعدالة وحفظاً للحقوق ونزاهة للحكم، إلا أن دراسة الأحكام القضائية والأحوال الإجرائية هي العماد الحقيقي في معرفة سيرورة حقيقة التزام المحاكم بالإجراءات المقررة للمتقاضيين ومدى الالتزام بالمبادئ المقررة والحقوق المنصوص عليها في تلك الأنظمة والقوانين التي هي الأساس والركيزة لعمل كل المحاكم في جميع أنحاء العالم، لذا فإنه من خلال تتبع الأحكام الصادرة من قبل المحاكم الشرعية في المملكة سواء كانت العامة أم الجزائية، وخصوصاً أن وزارة العدل قد نشرت أكثر من 30 مجلداً على موقعها من تلك الأحكام وهي منتقاة انتقاءً لا يضر بالمسار العدلي؛ إلا أن النهج القضائي والفكري للقضاة الشرعيين يجعلهم لا يكادون يخرجون من قضاء المسجد الذي كان يتم في القرون الثلاثة الأولى، وذلك لأن أحكام القضاء لدينا عادةً ما تخلو من التسبيب الحقيقي، وينعدم فيها تفكيك عناصر الجرم الجنائي وكيفية بناء الأحكام بناءً قانونياً وحمله على أسبابها، وكذلك تفتقر إلى التكييف الحقيقي للأفعال المرتكبة، وإنزال نصوص الأنظمة وحتى النصوص الشرعية على تلك الأفعال، وهذا بخلاف ما نراه منشوراً في كثير من الأحكام القضائية في الدول الأخرى، وذلك في كيفية صياغة وبناء الحكم القضائي، وهذه إشكالية حقيقية لدينا يتوجب التنبه لها، وخصوصاً في الجرائم الجنائية، وتحديدا في تلك القضايا السياسية التي يُحاكم فيها من يُعارض النظام السياسي، وكذلك في الجرائم الجنائية الإرهابية. وكذلك من خلال الخبرة العملية، وخصوصاً في التردد على المحاكم العامة الشرعية، يجد المتابع ما يلي:
1 - في سير إجراءات الجلسات في جميع مكاتب القضاة أن هناك استهتاراً بالوقت وعدم حضور من يترأس الجلسات في الأوقات المحدودة، وهذه الملاحظة مشاهدة ومحسوسة من كل أحد على سير إجراءات الدعوى، وهي في حقيقتها تعطيل وتعويق للعدالة المنشودة من قبل المتداعيين في القضاء الشامخ.
2 - أن بعض القضاة خلال الجلسات لا يُقيدون جميع ما يحدث وما يُقال من قبل المتداعيين، وعدم ذكر هذه الأحداث والأقوال يؤثر كثيراً عند الاعتراض على تلك الأحكام الصادرة، وذلك لعدم تقييد ذلك في ضبوطات القضايا، وهذه إشكالية حقيقية قد تجعل أي شخص يخسر قضية بسبب عدم قبول القاضي تقييد ما أراده أحد الأطراف، وهذا بخلاف ما شاهدناه في المحاكم الأميركية حيث يكون هناك شخص مسؤول يكون موقعه مقابل القاضي والمتداعيين ولديه جهاز للكتابة يُسجل كل ما يُقال ويحدث ويُطلب في تلك الجلسات القضائية، وهذا بسبب أن نظام المرافعات قد خول فتح الباب على مصراعيه للقضاة عندما قيد الأمر في ضبط الجلسات بما يراه القاضي، بل إنني حضرت بعض القضايا وقد أحضر الطرف الآخر رده ومذكرته مكتوبة، فقال له القاضي لا أقبلها، ويجب أن تضعها في ذاكرة إلكترونية وذكر ذلك في الحكم! وقد حدث أن حضرت قضيةً وقد قرر القاضي حكمه بعدما استمع إلينا (أي الطرفين) أنه متوجه إلى القضاء بصرف النظر عن دعوى المدعي (وكانت دعوى مطالبة وافد لوافد آخر بمبلغ قدره 700 ألف ريال من قبل شركته التي كان يعمل فيها، وهي من غرائب القضايا، حيث استمرت أكثر من 6 سنوات، ولم يقضِ فيها القاضي إلا قبل يومين!)، ولم يُقرر حكمه أنه قد قضى بصرف النظر عن الدعوى، بل قال إنه سوف يقضي بصرف النظر عن الدعوى، وقال: "سوف أسبب الحكم ثم أكتبه، وبعد أسبوعين أوثلاثة يتم استلام الحكم"، وبعد شهر ونصف أنكر أنه قضى في هذه القضية لهذا الوافد الذي عانى خلال 7 سنوات من التعسف في استعمال الإجراء القضائي في إقامة الدعوى ثم تركها لمدة سنوات، وكان رد القاضي أنه لم يتم ضبط ما تم في تلك الجلسة ما دام لم يتم ضبط إصدار الحكم فلا عبرة بما قلته شفهياً، وأن وكيل المدعي لا حق له في فتح القضية أو المضي فيها إذا لم يكن هناك موعد وأمر بحفظ القضية حتى يأتي المدعي ثم يُحدث الدعوى ثم يتم تحديد موعد للنظر في القضية من جديد، فكيف يتم النظر في قضية قد أصدر فيها القاضي حكماً! ومن يتحمل كون الجهاز الآلي كان متعطلاً! ولماذا لم يتم التقييد كتابةً وحفظه في ملفات وورد ثم حفظه في ملف القضية؟ أسئلة عميقة توضح مدى المعاناة لمن يتخصص في الذهاب إلى دهاليز القضاء. وهذه الطريقة فيها ضياع للحقوق، ويشعر الإنسان أنه لن يحصل على أي حق من حقوقه بسبب طول أمد تلك الدعاوى وطريقة إدارة الجلسات وعدم ضبط كل ما يريده المتداعيان.
3 - نسيان بعض القضاة ما تم في الجلسات السابقة، وهذا قد حدث كثيراً، في إحدى القضايا قال القاضي للمدعي عندما أحضر بينته وهو شاهد أنه لن يقبل هذه البينة لأن الشاهد لم يُثبت الحق المدعي به، وأنه سوف يقضي بصرف النظر عن الدعوى وبيمين المدعي، ثم قال له القاضي هل لديك بينة أخرى؟ قال المدعي ليس لدي إلا ما قدمت، فأعاد القاضي سؤاله، قال المدعي سوف أحضرها الجلسة القادمة، وكانت الجلسة القادمة بعد 4 أشهر، ثم جاء المدعي بمذكرة جديدة وكأن الدعوى جديدة، وقرأها القاضي وضبطها كاملة في الضبط ثم أنهى الجلسة، وكان الموعد القادم بعد شهرين، هذه الأحداث لا يُعاني منها إلا من دخل أروقة المحاكم وأحس بها، وما لم يتم إظهار هذه التصرفات والحد منها فلن يتحسن الأداء القضائي.
لذا فإننا نأمل من السلطة القضائية أن يتم تدارك الأخطاء وتصحيحها كي لا نكون عرضة للانتقادات المغرضة التي لا تُريد إلا تشويه سمعة هذه الدولة المباركة التي أثبت قادتها بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وولي ولي العهد أنهم سائرون للارتقاء والإصلاح والتطوير لهذه الدولة.