لم يخطر في بال المتحدث باسم وزارة العدل الشيخ منصور القفاري، أنه يمارس انتقاصا عنصريا للزوج الذي حكمت محكمة العيينة بفسخ عقد زواجه، بمجرد اتهام الشيخ ذلك الزوج بأنه "غش ودلس في المعلومات التي قدمها عن نفسه وتم تزويجه بناء عليها". ولو كانت عنصرية الانتقاص للنسب جريمة في بال الشيخ القفاري والمبدأ المعمول به في الوزارة، لما كان اتهام الزوج بالكذب والتدليس أكبر جرما من جريمة النبذ العنصري له وانتقاص نسبه من سلطة عدلية. ولقد كان الأولى بالوزارة -ما دام الأمر كذلك- أن تبرأ من الجريمة، وأن تدلل على أن مبادئها القضائية تعاقب مقترفها حين يتفوه بها على أي أحد، ومن باب أولى ألا تستقبل دعاوى من قبيل اتهام صهر لصهره أنه غشه ودلس عليه لأنه لم يصدِّق على أوهامه وظنونه العنصرية الكاذبة لا محالة في شأن التمايز بسبب الأنساب.
ليست تهمة عدم التكافؤ في النسب، في عداد الجرائم التي يحكم القضاء السعودي بعقوبات في حق من ينتقص أحدا بها: ليست شتيمة ولا قذفا ولا عنصرية ولا إيذاء يتجاوز الفرد إلى فئة أو مجموعة اجتماعية. والقضاء محق في أن "الامتناع ابتداء من تزويج من لا يُرضَى لنسب ونحوه داخل في خيار الناس". إنه عرف لدى بعض المكونات الاجتماعية في المملكة، وهو عرف فاسد ومتخلف وعنصري ومخالف للدين، ولكنه موجود. أين تكمن المشكلة إذن؟! تكمن في شرعنة وجود التمايز في النسب قضائيا، وذلك بقبول دعاوى فسخ عقود النكاح بسبب الزعم باكتشاف (متأخر!) لعدم التكافؤ في النسب، وإصدار أحكام الفسخ ضد رغبة الزوجين في قضايا عديدة (عدد القضايا المسجلة في محاكم المملكة 55 قضية فسخ عقد لعدم تكافؤ النسب، في العامين الأخيرين فقط). هكذا لا يصبح موقف القاضي محايدا، دعك من أن يكون مجرِّما للدعوى العنصرية، بل متقبلا لها، ومبرِّرا لجرمها، لكن من منظور آخر يقلب المواقع فينظر إلى ضحية العنصرية بتهمة اقترافه الغش والتدليس والكذب، في معنى الإرغام له على تصديق الطعن في نسبه والتمييز ضده!
دعوى التكافؤ في النسب، مستحيلة عقلا وواقعا، ذلك أنها لا تسمح بنشوء مجتمع، فأن يكون هناك مجتمع يعني أن يكون هناك اختلاف. ليس هناك تمحُّض عرقي، ولا تساو طبقي... إلخ، ليس هناك مجتمع متطابق. وأن أتهم أحدا في المجتمع الذي أعيش فيه بعدم كفاءة نسبه لي، يعني بالقدر نفسه قابلية أن اُتَّهم أنا بما ينتقص نسبي من موقع آخر في المجتمع نفسه، ومن الموقع الذي أمارس الانتقاص له والتمييز ضده. امتياز النسب ادعاء لا يقبل الإطلاق، لأن النسب علاقة وليس جوهرا مستقلا، وأن يكون علاقة يعني اتصافه حتماً بالنسبية، فهو امتياز من موقع وبنظرة محدودة. النتيجة -إذن- أن امتيازات النسب، كامتيازات اللون، والعقل، والجنس... إلخ وهم يصطنعه الإنسان، وخرافة ضارة..!
الأذى الناتج عن قضايا فسخ النكاح لعدم التكافؤ في النسب لا يقتصر على أطرافها، لأنها انتهاك للمعنى الوطني والاجتماعي والإنساني. وبوسع المرء أن يتلمس تآكل المعنى الإنساني في مجتمعنا من بعض وجوه التفاعل والتعليق على هذه القضايا: استخدام لغة التخويف من تشويه هذه الأحكام لسمعة المملكة والقضاء السعودي في وسائل الإعلام الغربية، دلالة على ضآلة الثقة في تأثير المحاجة بالقيم الإنسانية والأخلاقية والمنطقية، على سلطتنا القضائية والتشريعية. السؤال البائس: هل ترضاه لبنتك؟! دلالة استعباد ثقافي للفرد، وإلغاء تام لعقل الأنثى واختيارها. أما تبرير الانصياع القضاء للعرف الفاسد باتقاء ضرر أكبر كالقتل أو فساد الحياة الزوجية لمن يتصلون بالنسب، فتشكيك في هيبة الدولة وقدرتها على فرض النظام الذي يصنع مجتمع المسؤولية والعقل.