دعك من مسألة أنني كنت بغيضة بعض الشيء، لحوحة، لجوجة، متوترة، لكن أن يقول لي الممرض في قسم الطوارئ: "ممكن تحلي عن وجهي شوي"، هذا ما لم أكن أتوقعه، ولا حتى يمكن لي أن أتخيله، في أي مستشفى أو مستوصف أو في مكان أذهب إليه كي أتلقى العلاج، أو يتلقاه أحد أفراد أسرتي، فما بالك حينما يصبح قلبك وعقلك مشوشان بسبب مرض والدتك المفاجئ، وحينما بدأت في كتابة المقال، تساءلت: هل أكتبه لأنني تعرضت له شخصيا؟ هل أدون ما حدث لي لأن الأمر يتعلق بي بشكل خاص؟ هل أدافع هنا عن نفسي؟ أم أن هذا المقال شكوى لوزارة الصحة التي لا ذنب لها في كيفية اختيار الأطباء والممرضين وما يتبعهم، لكني أعتقد أن هناك مشكلة "قلة أدب" وتجاوز لبعض الممرضين من إحدى الجنسيات، ولا أود ذكرها في مقالي، ولكن ما إن قصصت ما حدث بتفاصيله إلى بقية أسرتي، حتى أجمعوا جميعهم على أن الممرض لا بد أن يكون من هذه الجنسية الشرسة.
وزارة الصحة في السعودية، لا يمكن أن تقبل الموظفين للعمل في أي مستشفى أو عيادة أو ما يتعلق بالبرامج الصحية، إلا عن طريق إرسال السير الذاتية، وبعد أن يتم انتقاء الأفضل، يعد موعد لإجراء مقابلة شخصية مع الذين وقع الاختيار عليهم، دون أن يوجد رئيس الشرطة ودكتور أمراض نفسية وعصبية وجهاز الكشف عن الكذب، حتى يتأكدوا من قدرة الذين تم اختيارهم للعمل في أي من المؤسسات الطبية في المملكة وهي كثيرة، ولكن للأسف رغم كثرة تعدد الخدمات الطبية إلا أن القليل منها ينجح بـ"الدف"، أو على الحافة!
من ملاحظاتي حينما كنت أذهب بشكل أسبوعي إلى الطوارئ، وجدت أن الجميع يعانون من مشكلة كبيرة لا يمكن أن نحصيها، وجود المرضى لساعات طويلة دون رعاية، بينما يبقى الممرضون والممرضات قابعين على كراسيهم دون حراك، مع ندرة وجود أطباء مناوبين، وحينما يتم طلب الطبيب المختص لا يأتي إلا بعد معاناة، مشكلات كنت أراها كما أرى نفسي الآن، ربما كنت أخشى على والدي –يرحمه الله- من أي سوء في المعاملة من الممرضة أو الممرض المشرف عليه، وهو الرجل الثمانيني الذي يعاني آلاما مبرحة وأوجاعا لاحد لها، فقد كنت أتناول "التبن" وكأنه عصير مانجا طازج، أخرس قهري وتلف أعصابي وكل ألسنتي التي يمكن أن تخرج من فمي، كي يظل والدي مرتاحا في رعايتهم، وحينما كان الطبيب يصر على أن يوضع والدي الفقيد في الحجر الصحي، دون أن تكون هناك أسباب معقولة أو مقبولة، كنت أسكت وأعض لساني وأقول هذا عملهم وبالتأكيد لا يقصدون على الإطلاق إيذاء أي مريض.
في الحقيقة، كنت بشكل يومي أمد يدي وأصافح كل ممرضة أو ممرض يهتم بوالدي، لا أفعل ذلك إلا امتنانا لهم، رغم أن ما قاموا به هو جزء من وظيفتهم التي حتمت عليهم العمل بالحسنى والحكمة والرحمة مع المرضى، وأيضا الصبر على أهالي المرضى، وكنت سعيدة في الفترة الماضية بتلك الرعاية الحانية وعلى الأخص من الممرضات الآسيويات اللاتي لطالما حاولن إسعاد والدي وملاطفته وإضحاكه أحيانا، وهو المريض بالزهايمر، ولم يعد يدرك وجوه وملامح من حوله، ولا يدرك لماذا المغذي يوضع في رسغه، وأنابيب الأكسجين تبث الهواء النقي في أنفه. مرحلة الزهايمر مرحلة خطيرة وصعبة جدا، والأصعب من كل ذلك حينما يكون أحب رجل في حياتك كلها، يتحول دون وعي منك أو منه إلى مجرد طفل صغير، حتى إنه لا يتذكر أسماء وملامح أبنائه أو أحفاده، وتبقى أفكاره مشوشة طوال الوقت، وحتى يصل به المرض إلى أن ينسى كيف يمضغ الطعام وكيف له أن يبلعه.
بعد مضي شهر كامل على رحيل والدي، تعبت والدتي وأصيبت بضيق في التنفس وارتفاع حاد في الضغط والسكري، ولهذا حملناها سريعا إلى الطوارئ، وماذا يمكن أن تفهم معنى الطوارئ؟ خدعنا مسلسل جون كلوني ونحن نراه مع بقية زملائه وزميلاته يهبون كالجنود من دون هوادة في مساعدة المرضى، ويتسابقون على استعجال القيام بالأشعة وتحاليل الدم وغيرها، لقد كان ما نراه هو ما لا يمكن أن تراه في كثير من مستشفيات بلادنا، إنني أتذكر جيدا إحدى الممرضات التي جاءت من أحد مستشفيات كاليفورنيا، وكانت تضع على خصرها حزاما ينتهي بحقيبة جمعت فيها أهم الأدوات التي يمكن أن تحتاج إليها في العناية المركزة، في حال أنها لم تستطع أن تخرج من غرفة المريض، لكن الممرضة "الكاليفورنية" بعد مضي شهرين فقط في عملها في المستشفى، لم تعد بحاجة إلى الحزام ولا إلى الحقيبة الصغيرة، فالأمر في المستشفيات السعودية يختلف تماما عما يحدث في أميركا، ما زالت كلماتها ترن في أذني وهي تقول: "لم أكن أتوقع أن أجد كل هذه الراحة هنا"!
ولكني أنا الابنة المكلومة، أنا الابنة التي لا تتصور فقدان والدتها بعد مضي شهر واحد من رحيل والدها. لا يمكنني أن أشعر بالحزن الذي كسر قلبي وظهري، حتى تلاشت كل صور الجمال من عيني، كنت كالمجنونة أبحث عن الممرضة البليدة كي تزيل إبرة المغذي من يد والدتي، وأفاجأ بمن يقول لي "ممكن تحلي عن وجهي شوي من فضلك"، جيد أنه قال من فضلك، ربما ليجعلها أكثر أدبا ورُقيا!
غرفة طوارئ معدة بكامل التجهيزات، وبها ما يقرب من 10 ممرضين وممرضات من مختلف الجنسيات، لا تجد أحدا منهم يتحرك إلا بشق الأنفس، كي يقوم بعمله كما يجب، بينما تجدهم يبحلقون إلى شاشات الكمبيوتر، وحينما تكلم أحدهم يوجهك إلى آخر، وفي النهاية: تهان في أحد مستشفيات وطنك!