عندما يقع بين يديك مقال يعود لأكثر من 77 سنة يتحدث عن المصايف والسياحة في منطقة تعيش شبه عزلة من الاتصال المعرفي بباقي أجزاء الوطن، فأنت بلا شك سوف تصاب بشيء من الذهول والدهشة لهذه النبوءة المبكرة، وهذا التفعيل الصحفي لجماليات المنطقة عبر الوسائل المتاحة حين ذاك.

هذا فعلا ما حدث معي عندما كُنت أعد لكتابي ـ الذي لم ير النور بعد ـ أبها في مرآة الصحافة، فقد لفت انتباهي هذا المقال المفعم بجماليات الوصف ودقته، خصوصا أن هذا المقال هو الأول الذي يتحدث عن عسير كمصيف واعد ( كما أعتقد)، فأخذت أبحث عن معلومات أكثر توصلني إلى الكاتب، خاصة أن ما تنبأ به في تلكم المقالة أصبح الآن حقيقة ماثلة للعيان نجني ثمارها.

طلعت وفا.. رجل لم يلهه عمله الأمني ومشاغله الإدارية عن تلمس مكامن الجمال واستشراف المستقبل لبلاد وصفها بأنها "مرآة المرء حين تذوب الأجسام من شدة الحر"، بل ولم تمنعه مسؤولياته من بذل الجهود لتنمية المجتمع وتنويره.

ساقته تنقلات الوظيفة إلى أبها، وهو في منتصف العقد الرابع من عمره، وكأن القدر يجذب إلي هذه المدينة جمال الأرواح التي تضيء ما استتر من بهائها لمن بعدت خطاه عنها.

وبحسب ما أنبأتنا به أخبار الصحف القديمة فقد صدرت في عام 1355 "الإرادة السنية بتعيين السيد طلعت وفا" مفوض القسم العدلي سابقا، مديرا لقوات شرطة عسير ونجران، وهو منصب لم يسبقه إليه أحد.

عشق للمكان

ومن هنا كانت بداية علاقته وتجواله في ربوع منطقة عسير التي أحب أرضها وإنسانها، حيث وصف رحلة الوصول إليها بقوله "أن أقطع البيد وأركب القفر حتى أصل إلى عسير، فأكتب عن مصايفها كلمة تكون تعريفا لها ودلالة عليها، يتمكن من تلاوتها المطلع أو حتى يعلم عن شيء كان مستورا من بلادنا. موقع هذه البلاد الجغرافي يعطيها ميزات لا تظفر بها إلا بلدان قليلة، فهي ملتقى صبا نجد بنسيم صنعاء، وهواء الحجاز برياح الخضم، ثم يتكون من كل هؤلاء مناخ بديع تظفر به عسير حتى أن المياه تتجمد في بعض المواضع لا سيما أبها في فصل الشتاء وكلها عذب نمير..".

لم يكن هذا الوصف في زمن كانت المعيشة هي الهم الأول للمواطن بعيدا عن أي تفكير في الصيف والاستجمام، إلا توطئة لمزيد من الحديث عن عسير ومصايفها بأسلوب يغري القادر على السفر، ليشد الرحال إلى أرض البهجة والجمال، حيث يستمتع ـ كما قال ـ بالهواء الطلق الذي يهُب على الأبدان فينعشها وتؤدي الأعضاء والأجسام وظيفتها في غير ما عناء.

وصف إبداعي

وبعد أن أشار في مقالته إلى عدد من مناطق الاصطياف مثل أبها وخميس مشيط والنماص كذلك المرتفعات مثل السودة، فإنه أسهب في الحديث والوصف عن بلدة الشعبين، حيث قال "الشعبين بلدة صغيرة تُعد من أجمل بلدات رجال ألمع، تتميز عن زميلاتها بجودة هوائها ورقته، وعذوبة مائها وبرودته، وجوها صحي مفيد للجسم، والأكل فيها شهي ومهما أكثر المرء فيها من الأكل فلا يشعر بسوء في الهضم أو ثقل في المعدة، وقد انتهزت فرصة وجودي في عسير فأمضيت في الشعبين بضعة أسابيع كانت أيامها زاهرة مشرقة، فيتلاقى في سوقها الذي يقام يوم الأحد ما يباع ويشترى بمتاحف من الحُسن والجمال والأناقة".

وما أجمل ما ختم به مقاله حيث وصف بدقة بالغة لا يختلف عليها اثنان حال المجتمع العسيري آنذاك قائلا "لو أتيح لهذا المصيف عمران فني، لكان ذا شأن بين المصايف الأخرى، حيث الرخاء التام والهدوء الشامل والطمأنينة، حيث الفضيلة تنشر راياتها فوق المدن فلا بغي ولا تطرف ولا خروج بالنفس عن مواطن الخير. ولعل أمل إصلاحها قريب يبتدئ بانتهاء هذه الحرب القاسية الضروس ـ يشير إلى الحرب العالمية الثانية ـ ولعل هذا الإصلاح يتناول كل هذه المصايف التي تعد من أجود مصايف الدنيا هواء ورقة ونظافة وبراءة وطهرا، فتكون لهذه المملكة مورد ثروة".


قصة المحاضرة

ولو كان هذا المقال مع أهميته وندرته هو الفعل الوحيد لـ"طلعت وفا" لكان بالإمكان القول إنها مجرد مشاعر عابرة. غير أنه سبق هذا بمحاضرة تحت عنوان "مشاهداتي في جنوب المملكة"، ألقاها على واحد من أهم منارات التثقيف والتنوير في زمانه ألا وهو منبر "ندوة الإسعاف بمكة المكرمة" التي أسسها في عام 1939 محمد سرور الصبان وكانت عامرة بالمناشط الثقافية والفكرية.

وتعد هذه المحاضرة أول محاضرة تلقى من على منبر ثقافي عن عسيرـ على حد علمي ـ وهي سبقت نشر مقاله هذا المعنون بـ"المصايف في عسير".

أثناء عمل "طلعت وفا" في أبها أسهم مع غيره في تأسيس ناد أدبي تحت مسمى "نادي عسير الأدبي"، وأشرف مع الشيخ عبدالوهاب أبوملحة على بناء أول جامع كبير في أبها بعد أن أمر الملك عبدالعزيز بتشييده في مكان يتوسط المدينة.

وهناك بعض الأعمال التي لم أتثبت منها بعد، قام بها هذا الرجل النبيل، الذي جُبلت نفسه على فعل الخير ونشر الثقافة وعشق الأوطان.

الرحيل

رحل طلعت وفا عن دنيانا عام 1383، بعد حياة عملية شغل خلالها مناصب عدة، منها مفوض القسم العدلي ثم مدير قوات شرطة عسير ونجران فمفوض شرطة مكة المكرمة ومدير لشرطة جدة وأخيرا ختم حياته العملية الحافلة مديرا للأمن العام.

الحقيقة أنني حاولت الحصول على صور له غير أن محاولاتي بات بالفشل ربما لأني لا أعرف ملامحه فأتمكن من تمييزه من بين عشرات الصور في مكتبتي.

فأرسلت إحداها وهي المنشورة هنا ضمن هذه المادة إلى حفيده الصديق هاني وفا فلم يؤكد أنها لجده وفي الوقت ذاته لم ينف إمكانية أن تكون له.

رحم الله طلعت وفا وجزاه عنا خيرا.

* باحث في التراث