... ولو سلمنا بمقولة الجاحظ باستحالة ترجمة الشعر، لأدركنا مدى الصعوبات المستعصية التي تكتنف الترجمة، ولا أقول كل الشعر، فبعض قصائد النثر تخلو من أي خصوصية إيقاعية أو صوتية، وأحيانا تبدو لي كنصوص مترجمة، ولمترجم فاشل.
وترجع استحالة ترجمة الشعرونقله نقلا إبداعيا إلى خصوصية الخطاب الشعري Poetic Discourse،وطبيعته العصية على الترجمة بسبب ارتباط المعنى العام للتجربة المقصود التفاعل معها بالشكل اللفظي والصوتي للنص الشعري وما يثيرانه من مشاعر وعواطف، وصعوبة نقل المؤثرات البلاغية، وغرائبية بعض الإيحاءات والرموز لالتصاقها بثقافة الشاعر وديانته أو مرجعياته الروحية، والذاكرة الجمعية لأمته. وهذا مما يصعب الأمر ويتطلب مترجما قادرا على إدراك المفهوم الدلالي والمعنى الإيحائي للمفردة الشعرية ، والذي يحيله إلى عوالم الترميز والأسطرة، واستحضار الماضي واستدعاء المقدس. وهنا قد يحتاج الأمر إلى متخصص في الشعر في اللغة المصدر، أو متذوق له ومتمرس فيه، عارف ببواطن اللغة الشعرية وتلميحاتها، وحتى شطحاتها، وطبيعة الخطاب الشعري وتورياته وغموضه. فالإلمام بالتراث الأدبي Literary Canon والديني أو العقائدي للشاعر، والتاريخ الذي يتكئ عليه سيساعد كثيرا في سبر أغوار القصيدة، وفهم سياقاتها التي استولدتها. هذا إذا ما أردنا الحصول على نص شعري مواز للنص الأصلي، وفي نفس بيانه، لأنه كما يقول الجاحظ " لا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في نفس وزن علمهن، في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية".
ولاستحالة تحقيق ذلك في كل ما يترجم من الشعر، ولافتقار معظم مترجمي الشعر(ولا أنزه نفسي) إلى الحد الأدنى مما ذكرت سابقا، فإني أكاد أجزم بأن معظم ما نقرأه من شعر مترجم منقول ليس سوى شرح للقصائد لا يخلو من جرح لإهابها النغمي، وسرد لأفكارها خال من ذلك الوهج الباعث على الانسجام والتأثر. لكن هذا لا ينفي وجود نماذج من الترجمة الإبداعية الخارقة كترجمة جبرا إبراهيم جبرا لمسرحيات شكسبير الشعرية. وبالمقارنة، ترجمة شاعر العصر الرومانتيكي إدوارد فيتزجيرالد لرباعيات الخيام من الفارسية إلى الإنجليزية، وكذلك ترجمة محمد عناني لملحمة ميلتون، "الفردوس المفقود. Paradise Lost
كل ذلك يجعلنا ندرك مدى الضرر الذي يلحق بجماليات النبض الشعري حين يغدو على يد مترجم تعيس جرد مسخ نثري، تكدست فيه الرموز المبتورة والمعاني المنثورة كطلاسم بين السطور.
وعلى الرغم من ذلك يظل الشعر المترجم هو وسيلة اتصالنا بالآداب العالمية، وبالثقافات الأخرى، رغم صعوبة انصهاره في ثقافتنا. وستظل الحاجة قائمة إلى ذلك "الناقل المبدع" ، وإلى النص الشاعري المنقول بيئة لغوية وثقافية مختلفة لنتمثل تجربة"الآخر"، ونطل من نافذة القصيدة على إبداعه، ونعايش تحولاته الثقافية والحضارية. ولعل ذلك يخلق أرضية ثقافية مشتركة نبذر فيها أحلامنا، ونتقاسم إنسانيتنا. . حين نتحاور شعرا.. وحين تشدو القصيدة.