أثار كتاب "كليات القانون والحكم بغير ما أنزل الله"، ردة فعل واسعة في المجتمع السعودي، والذي يعد القوانين التي يتم تدريسها في الجامعات "حكما بغير ما أنزل الله"، وأداة العلمانية في فصل الدين عن الدولة، فهذه القوانين تعتبر "كفرا بواحا وشركا بالله"، حيث يعتبر المؤلف أن المنهج الذي يدرس للطلبة ينص صراحة على أن هدفه تكامل الأحكام الطاغوتية، وليس هدفه ضبط الأحكام الشرعية وبيان فضلها!

وفي هذا الصدد يقول أحد رجال الدين إن من "يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها أو ليعين غيره على ذلك مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك فأصحاب هذا القسم لا شك فساق وفيهم كفر وظلم.. وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم، وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف، كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم".

ومن أبرز الأدلة التي يستند إليها الرافضون لتدريس القوانين في الجامعات وتطبيقها في المجال القضائي واعتبارها من الكفر البواح ومدخل العلمانية: "أن من أصول العقيدة الإسلامية، الحكم والتشريع حق لله وحده"، كما قال تعالى: "إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين"، حيث يفهم من هذه الآية أن القانون مختص بالله وحده، فلا يحق لأحد وضع قانون غير الله تعالى.

كما أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم كافرون وفاسقون وظالمون كما في قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، واتباع القوانين الوضعية التي صاغها البشر يعني النظر لمن سنها على أنه مشارك لله في حكمه، وكل من رغب عن شريعة الإسلام إلى قوانين أخرى فلن يجد له من الله من واق، وبعد كل هذا هل يمكن لآراء بشرية أن تقوم حياة الناس مثلما تفعل قوانين الله وحكمه؟

وعلى هذا الأساس، ونتيجة لتلك الآراء الرافضة للقوانين برمتها وحتى رفض تقنين أحكام الشريعة الإسلامية نفسها بحجة أنها مدخل لتطبيق القوانين الوضعية، كانت النتيجة إهمال رجال الفقه الإسلامي للقواعد الفقهية المتعارف عليها، وكانت الحقوق الأساسية التي ضمتها نصوص واضحة من القرآن والسنة النبوية المطهرة، أهدرت عملياً عند التطبيق، فلا ينتفع المسلم من حق يستطيع أي رجل من رجال السلطة التنفيذية أو حتى السلطة القضائية، إهداره بمجرد أن يقرر أن المصلحة العامة اقتضت هذا الإهدار!

إن الشريعة الإسلامية لا تتحقق بحفظ النصوص الدينية وتلاوتها ومراعاة المظاهر الخارجية، ولكنها تتحقق بتحويل النصوص إلى قوانين وتشريعات مكتوبة، فتكون جزءا حيا نابضا من حياة كل مسلم، وفي كل مجتمع إسلامي، فالمجتمعات الإسلامية على مر التاريخ لم تمارس السلطة التشريعية من فترة نزول القرآن حتى ظهور الدول الحديثة، فالدولة في الإسلام لم تعط نفسها قط سلطة التشريع أو سن القوانين.

هذا بالإضافة إلى أن الرافضين للقوانين يعتقدون بأن الأحكام الفقهية هي من صميم الشريعة الإسلامية، وبالتالي هي أحكام إلهية خالصة، وهي في الحقيقة تعكس في مضامينها الفهم البشري لنصوص القرآن والسنة المطهرة، وكذلك للقضايا والوقائع التي يواجها الإنسان في حركة الحياة، فهي ليست أحكاما إلهية خالصة لا تقبل النقد والرد كما يعتقد البعض.

فالقول بأن الأحكام الفقهية من الشريعة، والقانون المدني من صنع البشر بعيد عن الحقيقة، والصحيح أن الأحكام الفقهية والقانون المدني هما من صنع البشر، وكلتا المطروحتين بشرية، فالأحكام الفقهية ظنية مأخوذة أساسا من اجتهادات الفقهاء وفهمهم البشري للنصوص الدينية، ولهذا نجد اختلافا كبيرا في الفتاوى بين الفقهاء الذين يعترفون بأنفسهم بأن فتاواهم لا تصل إلى حد اليقين والقطع، بل هي حجة استنادا إلى حجية الظواهر أو حجية الخبر الواحد أو حجية الإجماع وأمثال ذلك.

أما فيما يتعلق بالأدلة التي يستند إليها الرافضون للقوانين واعتبار المطالبين بها كفارا وفساقا وظلمة، فالمعنى في الآيات لا يراد به القانون أو التشريع على إطلاقه، وإنما تتعلق الآيات بمبادئ العدالة ونبذ الظلم وكتمان الحق لإضرار بالغير وحفظ كرامة الإنسان، فحكم الله هو العدالة والمساواة بين البشر، وهذه من المبادئ الإسلامية الثابتة، فالله -عز وجل- يأمر بالعدل والإحسان ويقول: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، فهذا أصل ثابت في الدين، ومن حكم الله.

أما الأحكام الفقهية والفتاوى وكذلك القوانين المدنية، سواء كانت وضعية أو شرعية والتي تهدف إلى تحقيق العدالة، فهي من مقررات الشريعة الإسلامية المتغيرة، والتي يجتهد في صياغتها البشر جميعا، سواء كانوا من رجال الفقه أو الخبراء والمختصين والدارسين في المجال القانوني.

إن القانون المدني الذي يسميه البعض بالقانون الوضعي لا يتقاطع مع ثوابت الدين والشريعة الإسلامية، بل ربما تطابق معها، والدين هو الذي يتكفل بصبغ القانون بالصبغة الإلهية "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة"، وبذلك نضمن امتداد القانون في مضمونه إلى أعماق وجدان المجتمع من أجل تحويل القانون إلى واقع حي يتجسد في وعي الناس وأفكارهم وممارساتهم العملية.