لعل من الأمثلة الدالة على مشاعر الود والإخاء والترابط بين أبناء دول مجلس التعاون الخليجي، وإخوانهم من أبناء مصر الكنانة تلك المتعلقة بقصة انتقال اتحاد المؤرخين العرب من بغداد إلى القاهرة، وهي قصة أستحضرها في هذه العجالة بمناسبة زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لمصر، هذه الزيارة التي أظهرت مشاعر الإخاء والدعم لمصر، والوقوف بجانبها من لدن قيادة المملكة وحكومتها وشعبها.
وتعود هذه القصة إلى زمن احتلال الكويت من قبل جارتها العراق في عهد الرئيس صدام حسين، وما أحدثه ذلك الاحتلال من تشريد أكثر الكويتيين إلى خارج بلادهم، وتسبّبه في تدمير بنيتها التحتية، وإحراق المتحف الوطني، والمكتبة المركزية، ومصادرة مجموعة الشيخ ناصر الصباح التي لا تقدر بثمن، وإلحاق الضرر بكثير من المرافق العامة في البلاد، وإلغاء كينونتها كدولة ذات سيادة وعضو في جميع المنظمات العربية والدولية، ودمجها في العراق بوصفها محافظة من محافظاتها.
في تلك الأثناء كان مقر اتحاد المؤرخين العرب في بغداد، وكان يحظى بدعم كبير من صدام حسين نفسه، وكان ينتظم في عضويته معظم المؤرخين العرب من مختلف الأقطار العربية، وأحمد الله أنني لم أنتظم شخصياً في عضوية ذلك الاتحاد لكراهيتي للبعث الذي كان يسير في ركابه، ويتّشح بوشاحه على الرغم من محاولة رئيسه حينذاك استقطابي، ووعده لي بأن يمنحني وساماً من الأوسمة الكثيرة التي كان يوزعها هنا وهناك، ولكنني -ولله الحمد- تغلبت على نوازع النفس الأمارة بالسوء، ولم أستجب لكل الإغراءات التي بُذلت لي، فقد كنت أرى في خطابه، وتصرفات رئيسه عملاً غير صالح، وانحيازاً مكشوفاً للعراق دون غيرها من البلدان العربية التي يحمل اسمها.
ولم يخطئ سوء ظني باتحاد المؤرخين العرب ببغداد، إذ ما كادت الكويت تسقط في أيدي القوات العراقية، حتى طفق رئيس اتحاد المؤرخين العرب في بغداد إلى إطلاق التصريحات عقب التصريحات، وعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات باسم الاتحاد، بهدف إضفاء الشرعية على الاحتلال، ومحاولة تبرير تحويل الكويت إلى محافظة عراقية بإيراد دعاوى تاريخية عفا عليه الزمن، وليس لها في القانون الدولي المتعلق بحدود الدول واستقلالها أي اعتبار. ولم تقتصر مؤتمرات زميلنا رئيس الاتحاد في بغداد على الدول العربية، وخصوصاً تلك التي عُرفت بدول الضِّد، بل تعداها إلى عقد مؤتمر في بنجلاديش، وربما في غيرها من الدول غير العربية، فتنادينا نحن المؤرخين من أبناء دول مجلس التعاون الخليجي إلى الالتقاء في القاهرة بعد اتصالات أجريتها مع زملاء منهم الدكتور محمد العيدروس من الإمارات، والدكتور مصطفى عقيل من قطر، وقبلنا في القاهرة من الكويت الدكتورة ميمونة الصباح، والدكتور سليمان العسكري الذي أبلى بلاءً حسنا في الجانب الإعلامي لتحرير الكويت، وبيده كان تمويل كل اللقاءات والمؤتمرات التي عُقدت في القاهرة بعد لقائنا هذا الذي جرى مع أساتذتنا من كبار المؤرخين المصريين الذين اجتمعنا بهم في مقر الجمعية التاريخية المصرية، وكان رئيسها -حينذاك- الأستاذ الدكتور إبراهيم نصحي، وهو الذي ترأس الجانب المصري في ذلك الاجتماع. وبعد مفاوضات معهم لم تستغرق كبير وقت استجاب المؤرخون المصريون بكل أريحية لطلبنا، على الرغم من تعارضه مع مصالح بعضهم، ومنهم الدكتور عبدالعزيز نوار الذي كان -حينذاك- نائباً لرئيس اتحاد المؤرخين العرب في بغداد، وكان حاضراً (رحمه الله) معنا في ذلك الاجتماع، وتلخّصت مطالبنا في ثلاثة أمور هي: سحب الثقة من رئيس الاتحاد السابق، ونقل مقره من بغداد إلى القاهرة، ويكون رئيس الاتحاد من دولة المقر، وهي جمهورية مصر العربية، فتم الاتفاق على ذلك، وبدأت الدعوة إلى جمعية عمومية عقدت في فندق الميرديان بالقاهرة أصبح فيما بعد GRAND CAIRO بتمويل من الكويت تحت إدارة الزميل الدكتور سليمان العسكري الذي أصبح فيما بعد رئيس تحرير مجلة العربي الشهيرة بالكويت، وحضور عدد كبير من المؤرخين العرب من مختلف الأقطار العربية، وممن حضرها من الجانب السعودي إلى جانب كاتب هذه الأسطر، سعادة الزميل الدكتور عبدالعزيز الهلابي من قسم التاريخ في جامعة الملك سعود، وانضم إلينا بعد ظهر ذلك اليوم معالي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والدكتور ناصر الداود عضو مجلس الشورى حالياً، والدكتور سعد بن عثمان من جامعة الملك خالد، وهم في طريقهم إلى حضور فعاليّة في جامعة الزقازيق كما علمت. فأقر المجتمعون مطالبنا، ولم يتحفظ عليها إلا زميلان، أحدهما مصري معروف من اليسار العربي، والثاني ممن كانت نعم المملكة ودول الخليج عليه ظاهرة وباطنة، وهو ليس مصرياً، ولكنه انحاز إلى موقف بلاده التي اتخذت الجانب المضاد من تحرير الكويت. واشتغلتُ شخصياً مع بعض زملائي في وضع لائحة الاتحاد، الذي تشكل مجلس إدارته برئاسة أ.د. سعيد عبدالفتاح عاشور، وفي عضويته من المملكة معالي الدكتور عبدالله اليوسف الشبل نائباً للرئيس، وكان -حينذاك- وكيلاً لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والدكتور عبداللطيف بن دهيش، والعبد الضعيف كاتب هذه الأسطر. ومنذئذ والاتحاد يسير سيراً عقلانياً، ويؤدي رسالته العلمية على أكمل وجه بعيداً عن السياسة الحزبية الضيقة أو المتحاملة على دول مجلس التعاون الخليجي بسبب أو بدون سبب، ويرأس الاتحاد في الوقت الحاضر أستاذ قدير هو سعادة أ.د. حسنين محمد ربيع خلفاً للدكتور سعيد عاشور الذي أدار الاتحاد باقتدار، وكسب حب الجميع وتقديرهم واحترامهم لعلمه وخلقه وصدقه وإخلاصه حتى وفاته (رحمه الله)، ويتمتع المؤرخون من أبناء دول مجلس التعاون الخليجي بحضور فاعل في الاتحاد منذ انتقاله إلى القاهرة، ويحظون باحترام وتقدير زملائهم المصريين الذين يقدّموننا في كل شيء، ويتجاوبون معنا في كل ملحظ نلحظه على ما يقدم في ندوة الاتحاد السنوية من أوراق يتراءى لنا أن في بعض مضامينها ما يسيء إلى دول مجلس التعاون الخليجي بقصد أو بغير قصد، والأمثلة على ذلك تطول.
وأقترح بمناسبة زيارة الملك سلمان لمصر، وتوقيع هذه الاتفاقيات الخيّرة، ومذكرات التفاهم بين المملكة ومصر، أقترح الإعداد لمؤتمر أو ندوة تاريخية علمية تعقد في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض بعنوان: بين المملكة ومصر، ويشترك فيها إلى جانب اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة، الجمعية السعودية التاريخية، وجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي، وتُرعى على مستوى عالٍ من الجانب السعودي، فالتاريخ هو ذاكرة الأمة، ودلالاتها على الماضي، ونافذتها التي تطل منها على الحاضر والمستقبل.