مع كل فترة تتفجّر فيها حوادث الإرهاب، وتضرب يمينا وشمالا متجاوزة للحدود، ومستهدفة كل البشر بلا استثناء، يبدأ السؤال من جديد: ما سبب الإرهاب؟! أو ما سبب ظهور "داعش" باعتبارها الممثل الأكبر وليس الحصري للإرهاب في عالم اليوم؟!

وبقدر تنوع العمل الإرهابي، وتنوع ضحاياه، وتنوع جنسيات من قاموا به، تتنوع الإجابات حول السؤالين السابقين، غير أن الأجوبة الأكثر شهرة وتداولا عليه جوابان اثنان: أحدهما، يربط بين البنية الفكرية للإرهاب وبين التراث الديني الإسلامي المحسوب على تراث أهل السنة والجماعة. بعضهم يزيد تحوطا وتحديدا فيربط تلك البنية الفكرية بالتراث الديني السلفي تحديدا وحصرا، وربما يُدخل معه تنظيرات سيد قطب في معالمه، أو أخيه محمد في جاهلية القرن العشرين. هذا الربط يأتي بسبب الشعور بالتشابه في المفردات، والاستدلالات بين خطاب "داعش"، وبين مفردات وخطابات ذلك التراث.

خطاب "داعش" هو خطاب يحمل ألفاظا، ومفردات، ومفاهيم دينية مستخرجة من التراث، ومن ثم فالمُتّهم هنا لدى أصحاب هذا الجواب هو التراث، ما يعني أن هذا التفسير معزول تماما عن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نشأ في ظلها الإرهاب. الآخذون بهذا التحليل يتخذون موقفا أيديولوجيا واضحا ومضادا من التراث الديني، لا سيما السلفي منه، بحيث يعتبرونه العلة الوحيدة والنهائية للإرهاب. هم يستدلون دوما على أن خطاب الإرهابيين جميعا هو خطاب ديني، ويبرهنون على أن تطبيقاتهم هي تطبيقات مُستقاة من التراث، وأن تعاملهم مع المخالفين يتّخذ شكله النظري من بوابة التراث.

الحل عند هؤلاء يكمن في إدانة تراثنا الديني، ونقده، وتفكيكه، أو ربما التخلص منه!

على أن هذا الجواب غير البريء، يمكن دحضه بمسألة بقاء الأقليات والطوائف منذ القدم في منطقة الشرق العربي والإسلامي حتى يومنا هذا، إذ لو كان التراث بهذه الفاعلية، فإنه سيكون العامل الحاسم بلا شك في انتفاء وجود هذه الأقليات والطوائف منذ أمد بعيد. هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية فإن كثيرا من الإرهابيين لم يكونوا من حَمَلة التراث، بل كثيرُ منهم هم إلى الجهل بالتراث أقرب إلى المعرفة به.

وبصرف النظر عن كل ذلك، فإن التراث ليس كُتلة فكرية واحدة، إذ هو واسع الأرجاء، متعدد الحقول، مختلفُ في داخله، وعلى درجة كبيرة من التنوع، والاختلاف، والثراء، ثم إن الإرهابيين الذين ينتقون من التراث المقولات والأحكام لا ينتقون إلا أشدها، وأكثرها خدمة لأغراضهم في ممارسة أعمالهم الإرهابية.

هذه الحقائق السابقة يمكن اعتبارها معطيات مهمة تنفي ارتباط الإرهاب بالتراث الديني. على أن هذا الجواب السابق أعلاه، والذي يأتي ردا على سببية الإرهاب، يوازيه جواب آخر لا يرى وجاهة الأول، ولا يأخذه في عين الاعتبار، أو على أقل تقدير يتجاهله، ولا يعتد به، إذ إن هذا الجواب يربط الإرهاب بالسياقات السياسية والتاريخية والاجتماعية في البلدان التي ظهرت فيها "داعش".

الاحتلال الأميركي للعراق، ثم الفشل السياسي الواضح لدى السلطة المركزية في بغداد المترافق مع فسادها، وتغليب طائفة على حساب طائفة أخرى، كل هذه تعدّ عوامل موضوعية وكافية لظهور "داعش" أو ظهور الجماعات الإرهابية عامة.

أما سورية، فبسبب حالة العنف الهائلة التي قوبل بها الشعب السوري، فضلا عن استخدام النظام السوري الورقة الطائفية في زيادة هذا العنف، فقد استتبع ذلك ظهور "داعش" وتمددها على التراب السوري.

بمعنى آخر، إن حلّ المعضلات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالعراق وسورية، لم يكن ليأتي إلا برفع راية أيديولوجية خلاصية تثبّت المقاوم في مقاومته، وتدفعه دفعا لمجابهة عنف الاستبداد والطائفية.

هذا التوصيف لهذا النوع من الأيديولوجيا لم يكن ليتحقق في غير الفكرة الدينية، لا سيما في طبعتها السلفية!

من دون شك، فإن الجوابين السابقين –من منظور أصحابهما– كلاهما يحمل معطيات عدة تجعله تفسيرا وجيها، مُستحضراً في عقول الكثير، لكن ما يغيب عن بال هؤلاء، وهذا هو الأهم في تقديري، أن علّة الإرهاب أكثر تجذرا مما هو متوقع!. هو قد يكون صريحا وواضحا وفجا وبشعا في العراق وسورية، بسبب ظروفهما السياسية والاجتماعية، وضعف هيمنة الدولة، لكنه موجود وظاهر في غيرهما، ولكن بصورة أكثر لطفا ونعومة، له رموزه، وهياكله، ومنطلقاته التي تغذيه!