لم أتحدث عن بذور الاصطفاف إلا لأن مجتمعنا السعودي _كما يبدو لي والله أعلم_ قد بدا منزعجا بشكل غير مسبوق من التجاذبات الفكرية الحادة التي جعلت الساحة مسرحا للتهم والردود وأشكال التصنيفات والاعتداءات والاستطالات بالألسنة والأقلام والمقاطع الصوتية والمصورة حتى شوشت الأذهان وملأت القلوب بالشكوك والأحقاد إلى درجة أصبح المشهد معها مزريا ومملا بشكل لا يطاق، والكل يحْتجز لنفسه دعوى المنهج الصحيح والوطنية والحرص على وحدة الدولة وسلامة الأمة، ويرمي خصمه بشتى التهم التي تصور مخالفه عدوا لكل هذه المعاني النبيلة. ولا أشك أن هذا الوضع إن استمر منذرٌ بما هو أخطر منه إن لم يتسن للعقلاء تداركه.
فالمملكة مستهدفة في هذا التاريخ أكثر من أي تاريخ كان من قبل أعدائها لجعلها مسرحا لصراعات تفتت وحدتها وتضعف كيانها وتلغي قدراتها، والتشاحن بين النخب أحد الأدوات التي لا يمكن الاستخفاف بها كوسيلة لاختراق المجتمعات، لا بد من بذل الرأي والمشاريع لعلاجها.
وقد سبق من غيري ومني عددٌ من النصائح بالعدل مع المخالفين، بأن يحْمد لهم ما فيهم من الخير والنفع ويرد عليهم ما أخطؤوا فيه ببيان حسن وأدب رفيع، مع حفظ الألسنة عما يمنعه الشرع من الغيبة والبهتان، وكذلك التعبد لله بحب المؤمنين والشفقة عليهم، وحفظ القلوب من الحسد والغل والحقد. لكن هذه النصائح ذهبت سدى حيث يسول الشيطان لكل واحد أنه غير معني بها، ولا شك أن هذا دليل على أن الأدواء في القلوب عصية ومداواتها مستعصية والله المستعان. ولولا أدواء القلوب لكان في إرشادات القرآن وصحيح سنة المصطفى ? ما يمنع من الجدل ويضع النزاع في مواضعه، لكنها سنن الله في العالمين، وكما جاء في الحديث (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)، وهذا عين ما نحن فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإني مقدمٌ هذه النصيحة، والتي أرجو أن تكون عونا على رأب الصدع وإطفاء هذه الجمرة الخبيثة من دواعي الحقد والكراهية والشتات.
فقد أنعم الله علينا بدولة مكتملة الأركان تشتمل، من جملة ما تشتمل عليه، على جهاز قضائي وجهاز شرعي علمي وجهاز دعوي، ولسنا ولله الحمد عطلا من النظام حتى لا يجْدينا إلا التهارش فيما بيننا. فإذا لم يكن لنا من العلم والتقوى والعمل رادعٌ يحول بيننا وبين هذه الصفاقات فليكن لنا فيما سنتْه الدولة من التنظيمات وازعٌ، وكما جاء في الأثر: (إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن).
فمع كل أسف وبعد فشل البعض من مختلف الاتجاهات في الاستكانة إلى الوازع الديني والأخلاقي ليعصم أقلامهم وألسنتهم عن إخوانهم، لا بد أن تقف الدولة من هذا التطاحن الفكري موقفا قويا حازما حاسما يبدأ في تخصيص دائرة من دوائر هيئة التحقيق والادعاء العام لمتابعة ما يكْتب وما ينْشر من مقاطع صوتية ومصورة، فما خالف منها ثوابت الأمة الدينية والوطنية تكون مخولة للادعاء فيه ورفعه للقضاء فورا، فإن في ذلك تسكينا لغيْرة الناس من التطاول على دينهم وتاريخهم ومسلمات ثوابتهم، كما أنه قيام بمهمة الدولة التي نص عليها النظام الأساسي للحكم في التزام الدولة بحماية عقيدة المسلمين.
أمر آخر وهو أن الدولة قد أصدرت نظام الجرائم المعلوماتية يدخل فيه تجريم السب والشتم والتطاول على الأفراد والهيئات، لذا أهيب بكل من يدعي حب الدولة والحدب عليها والثقة بأجهزتها، إذا وجد لديه مستمسكا على واحد من الدعاة أو الصحفيين والكتاب أيا كان توجهه، يثْبت أنه ينتمي إلى جماعة محظورة، أو أنه يحمل فكر الخوارج، أو أنه داعية للخروج على ولي الأمر وجماعة المسلمين، أو أنه مرتبط بسفارة أجنبية، أن يكف عن إرهاق المجتمع بسب ذلك الرجل وشتمه وأن يرفع بمستمسكاته إلى الجهات الأمنية إن كان صادقا، وأن يكف قلمه ولسانه عن الجدل المذموم، وجهات الأمن أعرف بعملها، فهي إن تحققت من خطر من تم الإبلاغ عنه وضرره كفت الجميع مؤونته، وتولت إحالته إلى من يحْكم بعقوبته، وإن لم تتحقق جهات الأمن من صحة ما تم الإبلاغ به فلماذا يجعل الكاتب من نفسه وصيا على الجهات الأمنية ويأخذ دورها ويشتغل بتصنيف الناس والتحذير منهم بغير بينة ولا دليل؟! وما له وإدخال نفسه والناس معه في هذا الجدل الذي يضر ولا ينفع؟!
فإن كان مقصده براءة الذمة فقد برئت بهذا الإبلاغ ذمته، ولم يعد بحاجة إلى القيل والقال. ولم يعد له عذر في إصراره على القيل والقال إلا التنفيس عن أمراضه القلبية، وبث عدواها في المجتمع، وهذا ليس من حقه، بل مما يجب على أجهزة الدولة حماية الناس منه كما تحميهم من عدوى الأمراض العضوية.
ومن كانت لديه مستمسكات على أي من الدعاة أو الكتاب والصحفيين أيا كان اتجاهه بمخالفته للسنة وجنوحه إلى البدعة ودعوته إليها، فليرفع بشأنه إلى هيئة كبار العلماء ووزارة الدعوة، فهم أهل الصلاحية بإيقافه عن الدعوة والتحذير منه إن كان ما قاله هذا المبلغ صحيحا، وإن لم تتخذ هذه الجهات فيمن أبلغْت عنه تدْبيرا وتركته وهي المسؤولة عنه فما أنت وذاك ولم دخولك فيما هو شأن غيرك؟! فإن كنت تريد براءة الذمة فقد برئت ذمتك، واحمد ربك على العافية، وكف نفسك ولسانك عن عرض غيرك، فقد كفاك أهل الاختصاص والكفاءة. وإن كنت تريد بيان الحق الذي تعتقده ففي التأصيل العلمي مجال رحب، فأظهر ما عندك من التأصيل الذي تراه دون أن تكون في حاجة إلى السباب والمشاتمة. فإن لم تفْعل وأصررت على نشر اتهاماتك لهذا الداعية أو الكاتب وذاك، فقد كذبت نفسك في زعمك أنك تثق بأجهزة الدولة وتحرم الافتيات عليها وتوجب مناصحتها سرا، لأن ما فعلته من إطالة لسانك وقلمك هو عين الشك في قدرات الدولة وعين الافتيات والوصاية عليها، بل هو أسْوأ من نصيحة العلن وأشد إضرارا.
أما إن لم يكن معك مستمسكات تدين أحدا فليس معك إذًا إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، وهو من الكثير الذي أمر الله باجتنابه، ومن البعض الذي سماه الله إثما حين قال: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الطن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم). كما أوصي الدعاة والكتاب والصحفيين من كل الاتجاهات بأن من اعتدي عليه بلسان أو قلم أو فيلْم فليرفع ذلك إلى الجهات القضائية أو اللجان المختصة، ولا يترك أحدا يتطاول عليه افتراء ومينا، فإن أهل الافتراء متى تركوا تمادوا، وأنت حين تكفهم عن نفسك إنما تكفهم عن غيرك وتريح الناس من شر عدوانهم. هذه نصيحتي، وفي ظني أن مدى قبولها أو ردها سيميز الله به من يحب وطنه ويثق بأجهزته حقا ممن يقول ذلك مزايدة على غيره وتطاولا عليه وحسب.
ثم أتوجه بالخطاب إلى علمائنا الكبار من أعضاء اللجنة الدائمة وهيئة كبار العلماء، فكلمة الجميع ولله الحمد مجتمعة عليهم، ولا إخال أنهم يخفى عليهم ما يقع في الساحة من تهارش يشوه الدعوة وطلبة العلم، وكلمتهم التفصيلية في حسم هذا النزاع أصبحت ضرورية لما نجم عن هذه التنازعات من أضرار وافتراق وتكاره وصد عن دين الله. كما أتوجه إلى الجهات الأمنية والقضائية، بأن التنظيمات التي وضعت للحد من العبث الإلكتروني واستغلاله بما يضر الوطن والمواطن تحتاج للاستفادة منها إلى تسهيل إجراءات التقاضي وتعجيل الانتهاء منها.