إذا كانت فرنسا تخوض حرباً ضد الإرهاب، فإن عليها أن تخوض أيضاً حرباً أكبر حول تعريفها للعلمانية، حيث يصطدم هذان الضدان بأمر ثالث، وهو تغيير الهوية الوطنية لفرنسا، في الوقت الذي أصبح فيه التعريف الفرنسي للعلمانية غامضاً بشكل كبير بالنظر لتاريخها الطويل.
بدأ تاريخ العلمانية الفرنسية منذ عام 1905، عندما قررت الجمهورية الثالثة الفرنسية انفصال الدولة عن الكنيسة، حيث كان تعريف العلمانية الفرنسية في ذلك الوقت بسيطًا للغاية، والذي كان يتمحور حول حرية العقيدة لجميع المواطنين بالأساس وفق القوانين الجديدة، وهو ما كان تمهيداً للجمهورية الخامسة - الحالية - والتي تقوم على ضمان المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز على أساس أصلهم أو عرقهم أو دينهم، وتقوم على احترام جميع المعتقدات الدينية.
وعلى مدار قرن كامل، عملت العلمانية الفرنسية بشكل جيد، وضمنت وجود مساحة على السطح للمتدينين من المسيحيين بل واليهود أيضاً، وغيرهم ممن يتبعون فكراً مختلفاً، ولكن مع وفود موجات كبرى من المهاجرين في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والذين كان أغلبهم من المسلمين القادمين من شمال إفريقيا، بدأ نوع جديد من الصراع بين الدولة الفرنسية وبين الدين في الظهور والتشكل، وربما كانت ملابس النساء بداية رمزية لهذا الصراع. ففي عام 1989، تم فصل مجموعة من الفتيات المسلمات من مدرسة عندما رفضن خلع حجابهن، والذي اعتُبِر في ذلك الوقت بمثابة إهانة للنظام العلماني الذي تتبعه مدارس الدولة، قبل أن تحكم المحكمة الإدارية الفرنسية بعودتهن لمدرستهن بعد فصلهن بفترة وجيزة، إلا أن الأمور تغيرت تماماً بعد عامين فقط من أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، فمع تكرار تلك الوقائع في مدارس أخرى، لم تحكم المحكمة للفتيات بذات الحكم السابق. فعلى الرغم من أن المدارس منعت جميع صور الأزياء الدينية –بما فيها الطاقية اليهودية والعمامة السيخية- كان المفهوم تماماً أن المستهدف بهذا القرار هو الحجاب الإسلامي.
كانت تلك من النقاط الفاصلة في تغير شكل العلمانية الفرنسية عن صورتها الأولى، وإن التحول جاء تحت قوة العاطفة السياسية. واليوم يبدو مستقبل العلمانية الفرنسية واضحاً من خلال الاتجاه المعادي للإسلام من قبل مفكرين كبار، يناقشون أفكاراً تقوض الفكرة الرئيسية التي قامت من أجلها العلمانية وهي نبذ التمييز، في الوقت الذي يتحسر فيه بعضهم على ضياع أيام نقاء العرق الفرنسي والمجتمع المتجانس.
ويسهم حزب الجبهة الوطنية اليميني الفرنسي في تغيير مبادئ العلمانية الفرنسية، وتحويلها إلى أيديولوجية عدائية يمكنها أن تستخدم ضد المسلمين الفرنسيين، ففي الوقت الذي أكدت فيه زعيمة الحزب، مارين لوبان، التي تعتبر رمزاً جديداً في السياسة الفرنسية على كون الجبهة الفرنسية علمانية بالأساس، عادت لتتحدث بتصريحات تناقض تلك الصورة الأولى، وتتبنى تمييزاً على أساس الدين، حيث قالت "إذا أراد المسلمون في فرنسا ممارسة شعائرهم، فعليهم تقبل حقيقة كونهم يفعلون هذا الأمر على تراب مسيحي، وبناءً عليه، لا يمكنهم أن يحظوا بذات الدرجة التي تحظى بها المسيحية".