الحمد لله – سبحانه - أنه لم يكلف أحداً من خلقه بحمل مفاتيح الجنة والنار، لأن لو حدث هذا فعلاً لأدخلت كل جماعة أختها في النار، ولأغلق الأخ أبواب الجنة الثمانية في وجه أخيه، «قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً»، وما ينطبق على مفاتيح الجنة ينطبق على الرزق والمغفرة وقبول التوبة وحتى الشفاء والسعادة وراحة البال.. إلخ، لو أن الإنسان يمتلك زمام هذه المفاهيم لضنّ بها حتى على أقرب المقربين، لكن لله الحمد أن أمر الإنسان كله بيد الرحمن الرحيم.
المفارقة أن الإنسان لم ييأس أو يعجز عن إيجاد البدائل التي تتيح له توهم امتلاك رقاب الآخرين، لم يستسلم لحقيقة أنه مدنس بالعيوب والذنوب، إنما راح وأوجد لنفسه بدائل تتيح له التعالي والتعجرف على الآخرين والحكم عليهم بما شاء وكيفما شاء، بدائل تمكنه من المضي قدماً وبكل أريحية في تفسيق هذا وتبديع ذاك وتكفير الجموع، بدائل يتخذها سياطا يجلد بها عباد الله وكأن الله استثناه وحده بحمل مفاتيح الجنة والنار!
إن بديل مفاتيح الجنة والنار التي أوجدها الإنسان لنفسه هي مجموعة المعايير والمقاييس التي جعلها نموذجه المقدس الذي ينبغي أن يكون عليه الآخر وإلا سيعد من الهالكين، والآخر هنا "فرداً أم جماعة" دائماً سيتم تصنيفه فكرياً وثقافياً ودينياً وحتى إنسانياً تصنيفاً يستند بالكلية على مجموعة المقاييس والمعايير المتوهم فيها الصحة على طول الخط! المفارقة الأخرى هنا أن طريقة هذا التصنيف في الغالب ليست علمية مدروسة، هذا لأن الهدف من التصنيف غالباً ليس معرفة حقيقة الآخر وميوله وطبيعة انتمائه إنما لتحري الدقة أثناء توجيه الشتائم إليه وضبط إهانته وإذلاله بإحكام! لذا فلا أسهل من تصنيف الآخر ومن ثم شتمه وشتم جماعته بناءً على جملة عابرة أو مقال بسيط أو على المظهر واللون والجنس والنسب. إن الخوف لم يعد من شتم الآخر وذمه إنما من انحراف الشتيمة عن هدفها المنشود!
عموماً، هل نحن مجتمع يمارس لعبة التصنيف؟ هل نحب أن يقولب بعضنا البعض في قوالب لها أشكال وأبعاد محددة؟ وهل الهدف من كل هذا التصنيف هو تحري الحق أم إتقان الإساءة؟ هل نخاف من الإساءة للآخر أم نخاف أن نخطئ أثناء الإساءة إليه؟ هل يعاب على هذا الآخر كونه ليبراليا أو علمانيا أو سلفيا أو صوفيا.. إلخ، هل هذه معيِّبة في حقة ولا بد أن يعاير بها ويذل حتى في مرضه أو موته؟ هذا بغض النظر عن بقية التصنيفات كاللون والنسب والجنس سواءً أكان ذكراً أم أنثى، فلكلٍ لدينا تصنيف محدد ولكل صنف ما يناسبه ويتسق معه من تقبيح!
الأسئلة في هذا الصدد كثيرة ومن وجهة نظري فقد أجيب على الكثير منها بعد وفاة الكاتب "عبدالرحمن الوابلي" -رحمه الله- وما تعرض له الشيخ "عائض القرني" مؤخراً، ظهرت النتيجة للعبة التصنيف التي مارسناها ضد بعضنا البعض، فبعض التعازي في الوابلي كانت فئوية للأسف، وبضع أمنيات الشفاء للقرني كانت أيضاً فئوية، وهنالك من تشمت لموت الوابلي ومصاب القرني لأسباب تصنيفية بحتة! سلوكيات وعبارات كثيرة وضحت أن اللعبة قد انتقلت حتى لساحات الموت والمرض! ما يعني أن مصابنا في أخلاقنا جلل.
لماذا التشفي والشماتة في الموت والمرض؟ لأن الوابلي لم تنطبق عليه معايير البعض والقرني خالف مقاييس البعض الآخر، وبما أنها مقاييس ومعايير متوهم فيها الصحة على الدوام ولها قدسيةً ما، فبالضرورة أن من لا تلائمه المعايير والمقاييس لا يستحق الترحم عليه أو حتى تمني الشفاء له! صحيح أنه لا يصح التعميم على كامل المجتمع بناءً على نشاز، فالمعتدلون ولله الحمد كثر، وهدوء السواد الأعظم لا يلغيه صخب المتطرفين في كل اتجاه، ولكن الصخب بطبيعته يعكِر الأجواء ويوهم بأن هذا المجتمع يخوض صراعات فئوية ملحمية يتخللها الكثير من تصفية الحسابات، خصوصاً وأن المعتدلين بالإضافة إلى السواد الأعظم من الهادئين في حالة سكون.
لقد قيل قديماً في المثل إن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، لكن مع التمادي في لعبة التصنيف وتصفية الحسابات الفئوية التي تمارس اليوم، مع التمادي في هذه الفئوية اللاأخلاقية حتماً سنصدر نسخة جديدة عن هذا المثل عنوانها، لا اختلاف إنما ألف خلاف، ولا ود هنا حتى يفسد، ولا قضية من الأساس إنما صراعات ملحمية على الهامش.
وخير ما يختم به، نص مقتبس للوابلي-رحمه الله- يقول فيه: "بهذا التشوه العقدي والوجداني تنطلق صناعة العدو أو الأعداء الوهميين من دون أي كلفة لا في التفكير ولا البحث عن منطق، وتتحول صناعة خلق الأعداء إلى متعة تعبدية، يبدع فيها الحمقى والأغبياء ممن يريدون أن يكون لهم اسم في الساحة الدينية أو الوطنية أو حتى السياسية ولو عن طريق الحماقة".
ليرد الشيخ القرني -عافاه الله- في السياق نفسه بقوله: "انظر إلى فئات المجتمع كيف يتراشقون بالتهم ويتنابزون بالألقاب، فالمتساهلون في اتباع السنة يرون كل ملتحٍ متدين ملتزم، متشدداً غالياً في الدين، متطرفاً فظاً غليظا! ويرى المتشددون أن المتساهلين في السنة من المسلمين زنادقة فجرة ومستغربون مرتزقة! المفروض أن نجتمع على الإسلام ونعمر الأرض ونبني الفضائل وننتج ونبدع ونخترع ونكتشف، لكننا صرفنا جهودنا في التطاحن والتشاحن والتفاضح والتقابح".