من أطرف العبارات التي يجري تداولها الآن بخصوص الحل السياسي في سورية هي التحذير من حصول فراغ دستوري، وأن المرحلة الانتقالية يجب أن تراعي عدم حصول هذا الفراغ.

والتحذير أتى أخيراً على لسان رأس النظام السوري بشار الأسد الذي قال إن المرحلة الانتقالية تعني الانتقال من دستور إلى دستور جديد، وأن هذا يجب أن يتم ضمن الأطر القانونية ووفق الدستور الحالي، وأن عملية انتقالية لا يمكن أن تتم قبل أن يجري إعداد الدستور الجديد وتصويت السوريين عليه وإقراره (أيضاً ضمن الأطر القائمة للدستور الحالي)، وقبل بشار قال الأميركان كلاماً مشابهاً عن خطورة حصول فراغ دستوري، وقالها الروس أيضاً مرات كثيرة، وبطرق متعددة، وقالها كثير من المحللين والسياسيين، وهي عبارة تبدو محقة وصحيحة في الأحوال الطبيعية وفي البلدان الطبيعية.

ومنبع الطرافة في هذه العبارة (المحقة والصحيحة) يكمن في الانتباه للكلمة المعاكسة، فحين تتحدث عن فراغ دستوري محذراً فأنت بشكل طبيعي تتحدث عن "الامتلاء الدستوري" الذي تريد المحافظة عليه! وهذا الامتلاء الدستوري هو ما يستحق النقاش والتأمل، ويمكننا أن نعدد مكونات هذا الامتلاء، أو يمكننا مراجعة أي مادة من "الدستور الحالي" ونطابقها مع الواقع، وبالتأكيد سنصل لنتيجة مضحكة حد الألم.

فالامتلاء الدستوري السوري الذي تتم المطالبة بالحفاظ عليه يحتوي بالفعل على الرئيس ورئيس وزراء ووزراء ومؤسسات حكومية وبرلمان، وجيش وشرطة وأمن وبعض الملحقات الأخرى، ويحتوي كذلك على العناصر والرموز التي تشكل الدولة من دستور ونشيد وعلم وحدود وعضوية في المنظمات الدولية، وكثير من الأشياء و"الكراكيب" التي تملأ "الدستور" ولا تتركه فارغاً.

ولنبدأ من الرئيس، الذي لم يبق شيء يقال فيه بعد 5 سنوات من القتل والتهجير والتدمير، وماذا يعني لعموم السوريين، وماذا يمثل لهم، فعلى سبيل المثال لو قلت لامرأة تهدم بيتها في حلب ومات أبناؤها تحت القصف: لا يمكن لنا دستورياً يا أختي أن نبقى بلا رئيس! وعلينا أن نحافظ على الرئيس حتى لا نقع في فراغ دستوري، فما الذي سترد به تلك المرأة؟! يمكنني تخيل ملامح وجهها، والعجز عن النطق الذي سيصيبها، ومسحة الخوف من هذا المجنون الذي يتحدث أمامها بكلام يبدو ككلام العقلاء، ربما بعد مرور وقت كافٍ لاستيعاب الصدمة يمكنها أن تصفع المتحدث أو تشتمه أو تبدأ بالبكاء، يمكنها أن تفعل أي شيء آخر، لكنها ستعجز حتماً عن استيعاب أن هناك علاقة بين كلمة رئيس وبين هذا الرئيس.

الرئيس كذلك ومجلس وزرائه ومؤسساته (التي يجب المحافظة عليها لعدم حصول فراغ دستوري) هي مؤسسات موجودة صورياً، وهي في الحقيقة موجودة على أقل من 20 % من مساحة البلاد، وهذه الـ20 % يوجد بها معبر حدودي واحد مع بلد واحد هو لبنان، بعد أن فقدت السيطرة على جميع المعابر الأخرى مع تركيا والعراق والأردن، ولا يوجد فيها آبار للنفط ولا حقول للغاز، وهي تملأ الفراغ الدستوري بأداء لا يرقى في أحسن حالاته للحد الأدنى، فهناك وزارة ومؤسسات للكهرباء بالفعل، والجميع يعرف وضع الكهرباء في سورية، فبعض المدن لم تصلها الكهرباء لدقيقة واحدة منذ عامين، ويوجد وزارة للتربية فيما نصف الطلاب خارج التعليم، ووزارات للاقتصاد والتجارة والمالية فيما الليرة السورية تخسر من قيمتها كل يوم، والأسعار تتضاعف كل يوم، والفقر يزداد توحشاً كل يوم، ومزيد من السوريين يقعون في قاع الفقر كل يوم، والملايين منهم يستمرون في الغرق في البحر أثناء رحلتهم المخيفة في البحث عن ملاذ، أي ملاذ، بدلاً من ذلك الكهف المرعب الذي يعيشون فيه، رغم أن تلك التحذيرات السياسية تقول إنه كهف ممتلئ وليس كهفاً مرعباً.

التقديرات الأخيرة تقول إن 10 ملايين سوري هاجروا إلى أصقاع الأرض بعد أن فقدوا أي أمل بالحياة، وهذا الرقم لوحده هو فراغ دستوري وإنساني وسياسي وأخلاقي، ولا يجوز بعده الحديث بأي عبارة مألوفة في العالم الطبيعي.

الامتلاء الدستوري الذي يريدون المحافظة عليه هو أجهزة الأمن فقط، أي القدرة على اعتقال الناس وقتلهم وترهيبهم، فليس في هذه البلاد من السلطات سوى هذه السلطة، ولذلك فالفراغ الدستوري يعني التخلص منها، فليحصل إذا، فأي فراغ سيكون حتماً أفضل من هذا الامتلاء.