ظهر مصطلح الفنون الجميلة في القرن الثامن عشر، على يد ألان بومجارتن في العام 1750، لوصف مجموعة الممارسات الإنسانية الإبداعية، ورتبها لاحقاً كعلم ومفهوم إنساني يعبر عن ضمير العالم البشري فيلسوف "الجمالية" أستاذ علم الجمال بجامعة السوربون "إيتيان سوريو"، وصنفها إلى تجريدية/ تصويرية، مطلقاً جدوله الشهير المسمى منظومة الفنون السبعة، الذي غير تاريخ عالم الفنون الاعتقادي والروحي، وفتح المجال رحباً أمامها للتعبير عن نُبل الإنسان ومقاصده بطريقة خلّاقة، ولتصبح الفنون الجميلة علماً قائماً بذاته وتوجهاته التربوية، يتم تدريسه وتُنشأ له الكليات والمعاهد المتخصصة، مما ساهم في رفع ذائقة المجتمعات الإنسانية، وزادها قرباً من بعضها، وتفهماً لقيمة الحياة وسمو المخلوق البشري وقدراته.
وهذا ما قدمه الأصدقاء في حفل جامعة جازان بتلقائية مدهشة، احتفاء بتخريج طلاب الدفعة الحادية عشرة مساء الأحد الماضي، حين قدموا في الهواء الطلق بساحة الجامعة، أكثر من خمس عشرة لوحة فنية وأدبية حملت مضامين عالية تجاوزت هم الترقيص السائد، كتبها الشاعر موسى محرق، ولحنها الفنان الجازاني صالح خيري، ونفذها شباب الجامعة الموهوب ببراعة، حتى وهم لم يدرسوه كعلم وتخصص.
في النص الأدبي حضر المكان والزمان والإنسان واللحظة التاريخية والمجتمع والعائلة والأم، وحضرت حركة المسرح، واللحن الموسيقي برائحة المملكة وتفاصيل لوحة أنيقة، كأجمل ما يمكن أن ترسم به وطناً للحياة، ولقد أصروا على أن يكتبوا السعودية فخراً وهيبة وفكراً وفناً وإنساناً بلا حدود.
كانت تلك ليلة الفنون الجميلة وهي تعبّر عن زمنها وتنقش في الذاكرة تاريخ المكان وإنسانه وزمنه، وهو ما دأبت على إحيائه جامعة جازان – المختلفة- كل عام في حضرة أمير الجمال الملكي محمد بن ناصر، الرجل المختلف الذي صنع معجزة التنمية الواسعة في جازان.
لم أستغرب أن تقدم جامعة جازان بقياداتها الموهوبة، كل تلك الدفعات المتتالية من الخريجين بأعداد كبيرة، مقرونة بدهشة ثقافة التنوع الفكري، فهذه الجامعة أثرت في المكان كما لم يؤثر فيه كل ما سبقها، وفتحت مزيداً من المساحة لنافذة الرؤية الفكرية والثقافية والاجتماعية، من خلال إصرارها على بناء الإنسان رفيع الإحساس بالعلم والحياة والفن، وتأكيد ارتباطهما الوثيق معاً، حتى أنني أستشهد بتاريخ تأسيسها كمرحلة تاريخية، ما قبل وما بعد جامعة جازان، ولم أستغرب أن يقدم أهلي في جازان كل ذلك الفن والإبداع المحتشد بالثراء، من منظور تاريخي لماض يكرس الاعتزاز، وحاضر يعزز الانتماء، ومستقبل واثق الخطوة، وهذا -من وجهة نظري- هو دور المؤسسات والصروح التعليمية الكبيرة كالجامعات والمعاهد التربوية، سعياً لبناء الإنسان عالي التهذيب والثقافة والوعي، وهو المحور الرئيسي في التعليم الجامعي وليس الاكتفاء بتعليم "فك الخط"، الذي يمكن تحقيقه في المراحل التعليمية الأولى، إذ في الجامعات نكون أمام مهمة بناء شخصية الإنسان وتوجهه وتخصصه.
لا تحجيم للفكر التعليمي في الجامعات واختزاله في صورة الفصول النمطية، من خلال تكريس طريقة مفهوم وفكري أحادي، فتلك مخالفة لفطرة الإنسان وكيانه، ولن يكون في صالح المستقبل بكليته لأية أمة أن تبني متشابهات عقيمة، لأن إبداع الخلق والحياة يكمن في التنوع والاختلاف الذي تعبر لنا عنه الطبيعة، فاللوحة بلونها الواحد لا تعبر عن شيء أكثر من قسوة الرتابة وسطحية العادية.
مساء الأحد كان مختلفاً بفكرة القسم الجامعي العام، وأعداد الطلبة الخريجين، والحضور الجماهيري المهيب، وجزء من الفنون الجميلة، ما يدعوني للقول: في جازان جامعة.