يقول أحد الشعراء: (فلولا الغناء العذب ما امتد منحنى .. ولا قطع الترحال بالشدو طائر)، على هذا الشاسع من الأرض يمتد ذلك البوح الباذخ كخيوط الشمس وأصابع النهار وانفلاق الغيمة، لتضيء الأرواح المعرشة بالوعي والمسكونة بطموح الدأب العظيم، في جازان أصغيت إلى (إلياذة) ضخمة كعطر الأرض بعد المطر، وكخفق الوريد في حجرات القلب (لأجل الحياة، لأجل الوطن، سنفتح للكون أفكارنا، ونغرس في الأرض أعمارنا، ونحفظ فوق الذرى مجدنا، ونحرس فينا اخضرار العلم)، هكذا يكبر وجه الوطن في حنجرة الشاعر (موسى محرق)، هكذا ينسرب في فواصل جغرافيا الكلمات وأرخبيل الكلام، هكذا أوغلوا في الحداء الطالع من البحر وطين وموسيقى الجبال، التي أشعل إيقاعاتها الفاتنة (صالح خيري) ليملأ لجة الليل بحصباء الدهشة، ودانات الضوء وأفلاك الشهب، استل (محرق) طاحونة المشاعر المتدفقة في ذاك المساء، واقتنص الموحيات في لحظات الإشراق، في شتى لبوساتها وتجلياتها لتتحول الكلمات إلى أصوات تهب كالندى من أقصى الوجدان إلى بياض الأرواح والحس الوطني الصلب (وطني يمكث في الروح وفي الأرض وفي الكون سناه، ينفع الناس ويمضي في علاه، وطني يمكث فينا، ساكنا في مقلتينا هو أغلى ما لدينا وهوانا ما حيينا)، عبرت هذه الإضمامة من الحروف لتزهر كالحياة على قلب ولسان وجسد تسعة آلاف كائن ضوئي من خريجي جامعة جازان في دفعتها (11)، ليتحول المسرح إلى حديقة من شموع، وغابة من الأحلام الخضراء، قاد (محرق) غناءه الآسر والمبلل بالعشق الأبدي المحتشد في ثنايا النص، لتصفو نبرته واحتدامه وطربه في ليلة العرس ومتواليات الفرح، ليفر طير القصيدة ويقع منتشيا على نافذة (الشهيد) الموشومة بالمجد والبطولة والتضحية والفداء (حولنا الأرض دخان وحروب وفتن، فاذكروا الأمن طويلا نعمة الله عليكم، واسألوا العقل كثيرا واذكروا روح الشهيد، غاب كي نحيا ولم يخش الوعيد، (كورال جماعي) (سطروا أسماءهم والتضحيات، وارفعوا أمجادهم في كل آت، في ثبات وثبات)، هكذا يواصل النص الشعري سيولته الدلالية والبنائية، في مشاهد مفتوحة وتعالق استدعائي متداخل، تتكاثف فيه التجارب وتزهر في أجوائه الإحالات الحضارية والتاريخية والإنسانية، كمشهد السجال العذب وطراوة الإحساس الفائض، وثورة العاطفة الرهيفة بين (محرق) ومعشوقته (جازان)، وهو يدعوها لتحلق بعقول ليس يطفئها صوت الظلام، وفيها سورة العلق، (إنا بنوك تربينا على تعب وغربة في دروب العلم والأرق، إنا بنوك سهرنا ليس يطربنا إلا النجاح ونهوى أصعب الطرق، إنا جبلنا على جازان، سمرتنا في صوتنا، كالأغاني ساعة الغسق، النور دينك يا جازان فانتبهي لا تنصتي لدعاة الجهل والفرق).