من أهم ما يميّز العالم والفقيه، أنه يتبع الدليل الصحيح عقلاً ونقلاً، ويتورع عن التحديث بالأكاذيب والأغاليط، ويقف مع الدليل، ويتوجه معه حيث توجّه، همّه الاستنباط على أسس علميّة وعقلية، ويراعي أصول الاستدلال، ولا يكتفي بمجرد الرواية دون الدراية، ولا ينقل عن أي أحد، ولا يهمه أن يأتي بالغريب من القول، وهو ما كان حاضرًا عند القدماء في التمييز بين العلماء والقصاصين، أي الوعاظ، الذين همهم الأكبر التأثير في الناس، وكسب الجماهير.
نعاني منذ مدّة حالة من التخمة الوعظية، في كل شيء، وعلى كل حال، وفي كل آن، حتى أصبح الوعظ محيطًا بنا من كل جانب، غير أن هذه التخمة الوعظية التي نعيشها منذ مدة ليست بالقليلة، لم تحل مشكلاتنا، إن صحّ أن المشكلات تحل بالوعظ والقصص.
كان للقصاصين حضور في عهد الصحابة والتابعين، وورد الإنكار عليهم إذا كان من يتصدر للوعظ والقصّ غير عالم ولا فقيه، وقد وردت آثار كثيرة عن الأئمة تنهى عن القصص، وتشنّع على تلك الفئة من الناس، وقد بوّب الإمام الدارمي في سننه فقال: "باب النهي عن القصص"، ومن ذلك ما رواه بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقص إلَّا أمير، أو مأمور، أو مراء" [صححه الألباني]، فمن وقف للوعظ والقص والإرشاد فهو إما أمير، وإما مأمور، أو الخيار الثالث أن يكون من المرائين الذين يحبون أن يصرفوا وجوه الناس إليهم. ولكن الدارمي نفسه بوّب في "الرخصة في القصص"، ما يدلّك على أن في الوعظ ما هو ممنوع ومنه ما هو مشروع، فالممنوع هو ما لم يكن قائمًا على علم وفقه، والمشروع ما كان بخلاف ذلك. إذ كل عالم وفقيه يصلح أن يكون قاصًا وواعظًا، وما كل قاص وواعظ عالم وفقيه.
وقد بوّب ابن حبّان في صحيحه، فقال: "ذكر إباحة ترك القصص ولا سيما من لا يحسن العلم"، وروى فيه ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال:" لم يُقَص في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان إنما كان القصص زمن الفتنة". [صححه ابن حبان، وضعّفه الألباني].
وفي الحديث كذلك: "إن بني إسرائيل لمّا هلكوا قصّوا"، أي لمّا هلكوا انشغلوا بالوعظ. [حسنه الألباني]. وقال الألباني: "من الممكن أن يقال: إن سبب هلاكهم اهتمام وعاظهم بالقصص والحكايات دون الفقه والعلم النافع الذي يعرف الناس بدينهم فيحملهم ذلك على العمل". وأقول أنا –أي رائد السمهوري-: إن للفقه والبحث أربابهما وأهلهما، وليس كل من تصدّر للوعظ فقيهًا ولا عالمًا ولا مفتيًا؛ فإن العلماء حقًا لا يأتون بالأخبار الغريبة، والحكايات المخترعة الفجّة، ولا يتهورون تهوّر كثير من الوعاظ حين يأتون بالأوابد والأعاجيب والغرائب.
بل إن الشيخ الألباني -يرحمه الله- رغم مدحه للشيخ عبد الحميد كشك في قوة تأثيره في الناس، وفي حسن خطابته وفصاحته إلا أنه استدرك بعد هذا فقال بأنه "مع الأسف الشديد قصّاص وليس بالعالِم"، أي إنه واعظ وليس بالفقيه ولا العالِم.
وفي الأخبار التي انتشرت أيام الجهاد الأفغاني، وحين انساق كثير من الناس -وأنا منهم- حول الأخبار الكثيرة عن كرامات المجاهدين وغيرها إذا الشيخ الألباني -يرحمه الله- يقول: "في رواية هذه القصص التي تنقل عن بعض المجاهدين من فوحان رائحة المسك بالنسبة لبعضهم فقد تناقضت الأقوال في هذه المسألة فبعضهم أنكرها أشد الإنكار، وبعضهم أقرها مؤكدًا بصحتها، ومنهم الشيخ عبد الله عزام -رحمه الله- أكد ذلك في غير ما حديث له، بل لعلكم اطلعتم على رسالة له في ذلك، ثم أشيع عنه لما قتل رحمه الله أيضًا أنه شموا منه الرائحة الطيبة، فأنا أقول: هذا ممكن لأن ربنا عز وجل يكرم بعض عباده بما يشاء، أما هل هذا وقع أو لا فأنا لست شاهدًا ولست مصدقًا ولا مكذبًا". وها هنا يتوقف الشيخ الألباني -يرحمه الله- في تلك الأخبار فلا يأخذها مأخذ التسليم والتصديق، ولعلنا نذكر بعض وعاظنا وقصاصينا اليوم الذين أشاعوا أن الملائكة ظهرت في سوريّا مهللين مكبرين، وبهذه الأمثلة يظهر لنا الفرق بين عقلية العالم الفقيه، وعقلية القاصّ والواعظ، وبمثل هذه الأحداث وطريقة توظيفها نستطيع أن نميّز –إن شاء الله– بين هذا وذاك.
إن الأقدر على قيادة الأمّة وتوجيهها وحلّ مشكلاتها، والأولى بالتغيير الحقيقي والإصلاح المبني على الدليل ومراعاة الواقع والمصالح والمفاسد والحال والمآل، هم العلماء والفقهاء، أما القصّاصون فقد ذكرت أعلاه ونقلت ما ورد فيهم، وما قاله العلماء عنهم، وفي كتب التراث نصوص أضعاف ما سبق حول القصص والقصاصين، فقد نقل عن غير واحد من السلف أن التصدّر للقصّ منهي عنه، وتشدد بعضهم فقال إنه بدعة!