لا يكون العالم هو العالم إن لم تحدث فيه المآسي كل يوم، بات كلنا تقريبا موقنا من هذا بفضل انفتاح العالم وسرعة ورود الخبر، بل والصورة المرافقة له أيضا.

إن المستند الأخلاقي الذي يقوم عليه إعلام الكوارث اليوم هو أحقية الناس بمعرفة ما يدور في عالمهم، وأحقية المنكوبين بوصول أنبائهم إلى الآخرين تحت رجاء مد يد العون لهم.

لعل هذا صحيح من حيث الأصل، ولكن الأمر لم يخل من بعض التداعيات الأخلاقية العرضية لدى الإنسان المعاصر جراء تعرضه لهذه الشلالات من الأخبار والصور المأساوية التي يتعرض لها كل يوم رغما عنه أحيانا.

من أبرز هذه التداعيات إعادة رسم تصور الاستحقاق الإنساني بحسب الجنس بناء على بعده أو قربه من مناطق الكوارث. يقول سيرجي جيوريجيفيتش: "إن خبراء الإعلام واعون تماما أنهم حين يجعلون مشاهديهم معتادين على صورة الأفارقة المشرفين على الموت فإنهم لا يصنعون من الإنسان الأبيض إنسانا أكثر تضامنا على الإطلاق. بل على العكس فإن ما يحدث في اللاوعي الجمعي هو شرعنة التصورات الدارونية التي تنظر إلى الأفارقة بصفتهم نوعا فرديا دونيا، يجب الاهتمام بهم (مثل الطيور التي تقع في بقعة من النفط)، وإرسال شيء من الحليب الجاف لهم".

يقول المفكر نفسه إنه اقترح في نقاش عام هذا الاختبار العملي: "فلنتخيل رضيعا يموت لدى أحد الأوروبيين، في الحين الذي يندفع شبان عمليون من التلفزيون مبعدين الوالد، وحاملين كاميراتهم ومصابيحهم وهم يمضغون العلكة، ليبدؤوا في تصوير مشهد منازعة الموت، ثم يعلق على هذا المشهد رجل سمين يشاهد التلفاز في أحد البارات وهو يحتسي البيرة: انظر إلى هذا المخلوق الصغير كيف يلقي أظلافه وترتجف يداه!".

يقول جيوريجيفيتش: لقد استاء الجميع مني كما توقعت، فقلت لهم حينها، لماذا يفعلها تلفازكم مع الأفارقة كل يوم ولا ترون في ذلك ما يسيء؟

لعل في هذا بعض التفسير لما نراه من تفاوت ردة فعل وسائل الإعلام وكذلك المجتمعات تجاه حدثين إرهابيين لهما نفس السمات والنتائج يحدث أحدهما في بغداد والآخر في باريس!

يوفر الموت مادة رائعة لوسائل الإعلام، فهو من أهم المثيرات البشرية، إذ من الممكن أن تقطع أي وسيلة إعلام غربية بثها لتعرض مشهد انتحار رجل مباشرة على الهواء.

تنبأ إريك فروم عالم النفس المعروف بأن اعتماد التلفاز على عرض مشاهد الموت سوف يتزايد في العالم الحديث، وقد ربط ذلك بحالة الملل المخيف الذي يستحوذ على الفرد المحروم من العلاقات الإنسانية الطبيعية. يعاني هذا الفرد انجذابا سلبيا للخبز اليومي الذي يغذيه به البث الإعلامي على أطباق من صور النكبات والمشاهد الدموية القاسية. يستقبل الناس هذه الصور بشغف لما تعودوه من اهتياج يخفف من شعور الملل العدمي، مع غفلة أغلبية الناس من أن الفاصل بين الاستمتاع السلبي بالعنف والهياج الناجم عن الممارسات السادية ضيق جدا كما أثبتت ذلك الدراسات السيكولوجية.

هناك من يرى أن الأمر قابل إلى التطور لدى الفرد، كما في أغلب حالات الإدمان مما يدفع بكثيرين إلى الرغبة في زيادة استهلاك هذه الصور والمشاهد كما يحفز المنتجين على زيادة الإنتاج مع التفنن في ذلك.

إن هذه النزعة التي تجذب جماهير تعاني الملل لتعلق أبصارها في شاشات تجهزها كوادر تبدع في عرض موت حقيقي لا مجرد مشاهد تمثيلية، هي نفس النزعة التي كانت تجمع الرومان القدماء في الميادين بغرض مشاهدة عنف حقيقي في عروض قتال المصارعين والوحوش حتى الموت.

لعل القارئ يتذكر الصورة الاحترافية الشهيرة التي عرضت منظر طفل إفريقي مشرف على الموت بانكفاء يبعُد عنه طائر رخم ينتظر سقوطه على بعد خطوات منه. يروى أن هناك من سأل صاحب هذه الصورة إن كان حاول إنقاذ ذلك الطفل بأي وسيلة ممكنة؟ فما كان منه إلا أن أجاب: لم أفعل ذلك بالطبع، فأنا لست سوى مراسل يجلب لكم الأخبار!