عقب مقالي الأخير بهذه الصحيفة، وعنوانه: أيها العقل هل ترى نفسك، تواصل معي أحد أبناء القبيلة المبتعث بأميركا بشأن المقال، وأرسل لي كتاب عبدالله القصيمي: أيها العقل من رآك، ظنا منه بأن هناك صلة بسبب تشابه العناوين.
فشرعت في قراءة الكتاب المرسل، ولم أُصدم هذه المرة، فقد قرأت كتابين لنفس المؤلف. والشيء المشترك بين الكتب الثلاثة هو في الكمية الكبيرة من الشتائم والسباب، وفي الاستخفاف بعقول الناس بالتعرض لمعتقداتهم وتسفيه خياراتهم والتشكيك في دينهم.
فخلصت إلى نتيجة مفادها، أن هذا الرجل لديه "أنا" حمولتها ثقيلة. وما نقله في الكتب سوى الصراع الأنوي مع الغير وضيق من بهجة الحياة وعدم الأمل في مستقبل جميل.
في نظري، هذا النوع من الكتاب لا يقدمون للقارئ أي جديد، والمقصود بالجديد، هو التعرف على الذات والخروج من ربقة "الأنا" وعقدها ومشاكلها إلى حالة من فضاء الوعي الشاسع، وإلى حالة من راحة البال والسلام الداخلي المصاحبين لهذا الوعي.
يسمي كتاب الأرض الجديدة لمؤلفه " إكهارت تولي" هذه النقلة وهذا التحول بعملية الاستيقاظ، ويعرف "الأنا" بأنها التماهي مع الأفكار. يتماهى معظم الناس كليا مع الصوت الذي في الرأس – تيار التفكير المستمر في التدفق والقهري وغير الطوعي والعواطف التي تصاحبه – بحيث يمكن وصفهم بأن عقولهم تهيمن عليهم.
لقد تماهى القصيمي مع كونه مفكرا، في البداية منافحا عن السلفية وانتهى به الأمر مهاجما لها ولمضمونها ولأصحابها وللدين الذي تمثله كمنهاج فقهي.
لابد أن التماهي مع كونه مفكرا هو ما جعل القصيمي يتحول من السلفية إلى الشك بالدين، تحولا بمقدار 180 درجة. فإذا كان المشكّل الرئيسي لهوية الشخص "كونه مفكرا" فإن أي تحد لهذا المكوّن سيجابه بردة فعل غاضبة ولا واعية تجعل الشخص يستهدف كل الأرضية التي يقف عليها الخصم المتحدي. إن تفكير الشخص ومضمون عقله مشروطان بماضي الشخص: نشأته، ثقافته، وما إلى ذلك، وبالتالي فإن الصراع مع السلفيين هو الذي خلق "أنا" القصيمي اللاواعية.
إن كل "أنا" تكافح باستمرار للعيش والنجاة، وتحاول أن تحمي وأن تضخم ذاتها. ولكي تدعم "الأنا" نفسها فإنها تحتاج للفكرة المضادة عن الآخر، وذلك من خلال التنقص من الآخرين وتعييبهم، ومن خلال جعل نفسها محقة والآخرين على خطأ، فهذا يشعرها بأنها أكبر وأكثر تفوقا منهم.
بالمصادفة، يجلس الآن بجانبي ديوان لشاعر أصيب بالجدري صغيرا فعمي في السنة الرابعة من عمره. أقرأ لزومياته فلا أجد إلا الضيق من بهجة الحياة وعدم الأمل في مستقبل جميل والشك في الدين.
من المقبول أن يعبر لي الكاتب أو الشاعر عما يختلج في نفسه، أي مضمون "الأنا" الخاصة به، لكن الأهم أن ينقل لي تجربته في العبور من حالة اللاوعي (الأنا) إلى حالة اليقظة. فكل الفلسفات والأديان هدفها هو هذا بالضبط، أن تخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، من ظلمات "الأنا" إلى نور الوعي، وأن تسهم في تحرره، من استعباد "الأنا" إلى حرية الوعي. بداية التحول تكون بإدراك الإنسان لذاته غير اليقظة، وبالحضور وعيش اللحظة الراهنة.