قبل أيام، احتجت لصورة عن وثيقة رسمية من أجل معاملة أنجزها، الشخص الذي سيرسل الوثيقة طلب مني رقم فاكس ليقوم بإرسال الوثيقة إليه، سألته بعد أن ضحكت: فاكس؟ وأين سأجد فاكسا سامحك الله؟ فاستغرب استغرابي، ثم قال: أجل فاكس، هذه وثيقة يمكنني إرسالها، واحتاج إلى رقم فاكس. استعرضت كل الناس الذين أعرفهم وكل الأماكن التي أزورها، لعلي أتذكر أحدا لديه فاكس يمكنني استعماله، ولم أجد، فهذا اختراع قد انتهى، صار من الماضي، وهو لم يختف تماما بالتأكيد، لكنه صار نادرا ومحصورا في أماكن تفرض عليها طبيعة عملها أو تقاليدها أن تحتفظ بجميع وسائل الاتصال، دون أن ينفي ذلك انتسابه للزمن الماضي.

تذكرت أول فاكس رأيته في حياتي، وكان ذلك في منتصف التسعينات من القرن الماضي، كان كالأعجوبة بالنسبة لي، تضع ورقة أو صورة في جهاز، فتخرج نسخة عنها في مكان آخر، وقد يكون هذا المكان في قارة أخرى، شعرت بأنه من علامات الساعة، وتوقفت أتفكر بعظمة العقل البشري وقدرته على الإبداع والاختراع، ولم يخطر لي بالطبع (ولا أظن أحدا آخر فعل ذلك) أن العقل البشري عظيم بالفعل، لا لأنه اخترع هذا الاختراع المدهش، بل لأنه (أي العقل البشري) سيتمكن من جعله شيئا مضحكا من الماضي خلال 20 عاما فقط.

فهذا التطور التقني السريع والمتلاحق جعل كثيرا من الاختراعات تمر بالرحلة ذاتها، الإبهار ثم الاعتياد، ثم التراجع، ثم الإهمال، ثم الاختفاء تماما، ولكن في فترات زمنية سابقة كانت هذه الرحلة تحتاج إلى قرون حتى تصل لنهايتها، أما الآن فهي تحتاج لـ10 سنوات أو 20، وقريبا ستحتاج إلى زمن أقل، فأقل، وهذا المصير الذي لاقاه الفاكس سبقه إليه كثير من الاختراعات التي ظهرت واختفت خلال القرن العشرين، ولم يبق منها سوى بعض قطع للتباهي بها، أو لدى بعض الهواة المتعلقين بها، شريط الكاسيت مثال واضح على هذا النوع من الاختراعات التي انتهى زمنها، وقبله الأسطوانة، وبعده القرص المرن (الفلوبي) الذي عمّر لبضع سنوات قبل أن يندثر، وقريبا سيندثر القرص المدمج، وكل وسائل التخزين الرقمي المادية، وسيصبح تخزين المعلومات بكل أنواعها محصورا في العالم الافتراضي، وستصبح لكل واحد منّا "خزانة" لا يعرف مكانها، ولكنه يملك مفاتيحها ويضع فيها كل أشيائه الثمينة وكل خصوصياته، وما تفعله جوجل ومايكروسوفت (عبر وان درايف وجوجل درايف) هو مقدمات أولية لهذا النوع من علاقتنا بأشيائنا.

الجيل الذي ولد بعد الثمانينات لا يعرف شريط الكاسيت، ولا يعرف تلك العلاقة بين الشريط وقلم الرصاص الذي كنّا نستخدمه لتدوير الشريط والانتقال (بين الملفات)، ولا يمكنه تخيل تلك المرحلة الصعبة من حياتنا، عندما كانت تفلت قطعة الإسفنج التي تدفع الشريط ليلامس رأس المسجلة، ونحاول الاستعاضة عنها بعقب سيجارة غير مستعمل، نقتطع جزءا منه ونحاول تثبيته بلاصق على القطعة المعدنية المرنة والصغيرة المثبتة أعلى الشريط، والتي كانت تفلت مرارا وتكرارا، فنلف الشريط بانتظار أن يأتي خبير ما أو صديق ماهر في الأشياء الدقيقة ليصلحه لنا، وغالبا لا يأتي هذا الصديق، فننسى الشريط وتتراكم الأشياء والأيام فوقه، وكثير ممن تجاوزوا الأربعين من العمر لو بحثوا جيدا في خزائنهم القديمة لا بد أن يجدوا شريطا مقطوعا، أو ملفوفا حول غلافه بانتظار إصلاحه، رغم أنهم لم يعودوا يملكون آلة تسجيل، ولا مزاجا لسماع الموسيقى بهذه الوسائل البدائية.

الجيل الجديد سيندهش بالتأكيد إذا عرف أن شريط الكاسيت كان غالبا أول هدايا الحب في مرحلة المراهقة لأبناء جيلنا والجيل الذي سبقنا، وأن مضمون الشريط ونوعية الأغاني التي يحتويها هي الرسائل التي يريد الحبيب أن يوصلها إلى حبيبته، الآن يمكنهم أن يعبروا عن حبهم بطريقة مشابهة، لكن بدلا من تسجيل شريط ونقل الأغاني من أشرطة متعددة إلى شريط واحد باستخدام مسجلة ذات رأسين، يمكنهم ببساطة أن يرسلوا رابطا لأغنية على اليوتيوب، وهذا يتم بثانية واحدة، بدلا من الساعات التي كان يقضيها المراهق في تحضير كاسيت خاص لحبيبته في عيد ميلادها.

بالنسبة لهذا الجيل فإن الكاسيت والفاكس شيئان قديمان وليسا اختراعين، وهما ينتميان لنفس الفئة التي يضعون فيها الحمام الزاجل والبرقيات والأسطرلاب.

المهم أنني أريد الحصول على تلك الوثيقة فليرشدني أحد إلى مكان أجد فيه فاكسا، حتى لو كان هذا المكان متحفا للتاريخ البشري.