التطرف نوع من الحرمان، بحث عن إشباع وجداني، عطش لماء المعنى المفقود، هروب من الفيزيقي المحدود إلى الميتافيزيقي الممتد، إسراف في التزمت الديني كهروب دائم من أخطاء الماضي وضرورات الحاضر وقلق المستقبل، فما الذي يبحث عنه هؤلاء الشباب في داعش، وما الخيط الفكري الناظم لهم على اختلاف بلدانهم، سواء القادمين من أقصى الغرب (مسلمي أوروبا وأميركا) إلى أقصى الشرق (مسلمي روسيا وبقايا اتحادها الماضي) وبينهم أبناء الوطن العربي؟

إنه اغتراب عن الواقع وشعور بالمظلومية، فمن المفاجآت أن تجد أغنية روك لمسلم أميركي تحمل من المفاهيم نفس ما تحمله الأناشيد التي كان يضخ بها الحركيون شبابنا في المراكز الصيفية، إنه الإيقاع الناظم الذي تخلقه أرضية المتشبعين بالمفاهيم الأرثوذكسية أو السلفية للدين (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)، ليجد الشاب أن الاغتراب النفسي لمرحلته العمرية الذي يستنكره من حوله يتقاطع مع هذا الاغتراب في ظنه، فيتناغم معه وينساق للعازفين على نغمته كاعتراف ضمني بأوجاعه النفسية، وكل هذا تحت أجندة أيديولوجية ذات أبعاد سياسية تسير وفق طوطم (الحاكمية) كيوتوبيا يطلبونها بسفك الدم، وعندها يستثمر داعش عبر اجتماع عنصرين المظلومية خارج الوطن العربي، والاستبداد داخله، مع شعور بالاغتراب في كلا الحالتين.

مظلومية الأقليات المسلمة التي يشعر بها بشكل متطرف من تلقى المفاهيم السلفية الكلاسيكية، مما يؤدي أيضا إلى اغتراب الهوية عندهم، بخلاف بقية المسلمين في الغرب والشرق الذين لم يعبّئوا أبناءهم بالمفاهيم السلفية، بل يستوعبون حقوقهم وفق قوانين بلدهم، ويناضلون لإقناع غيرهم أن هؤلاء المشغولين بالحاكمية لا يمثلون الإسلام.

أما في الوطن العربي فيكفي أن نتأمل الاستبداد الشمولي الذي يجرم الفاعلية الفردية خارج منظومته الخاصة كلون واحد ينفي ما عداه، ليولد الاغتراب والمظلومية من جديد، فتجتمع في هؤلاء وأولئك روح وجدانية واحدة، إنه البحث عن الهوية المشتركة، مع إتاحة الفرصة لهذه الهوية أن تحصل على أقصى فاعلية لها على هذه الأرض، عبر المشاركة السياسية تحت مظلة (الحاكمية) بشكلها العاري دون تقية أو تورية، بما فيها من حمولة تسلطية، لأناركية دينية يصبح فيها الخروج على القانون الدولي والأعراف الإنسانية هو قانونها وأعرافها، إنها جاذبية الفعل في التاريخ، ونيرفانا اللحظة من أجل الحلم المستحيل، عبر أمثولة عربية دينية نحتتها عقول ماضوية ضد التاريخ السياسي المستبد في قلوب المستضعفين والمغتربين عبر طوطم (الحاكمية) كنفق للخروج من الضعف والاغتراب، وقد عجز كثير من الفقهاء عن كسره في عقول الدهماء، مع الأخذ بيد الناس وإفهامهم أن رفع مظالمهم يكون وفق معطى المواطنة في الحقوق والواجبات، ليتجه ترافعهم عن تمثيل أنفسهم عبر مؤسسات المجتمع المدني بأنواعها المختلفة، فمهما حاولت السلطة في الوطن العربي الهروب من استحقاق المواطنة لكل فئات مجتمعها فإنها تقرب أبناءها كحطب لفرن داعش تحرق به نفسها، أو التوجه إلى مفهوم الدولة الحديثة بما فيها من تعددية وروح ديمقراطية تقبل الرأي والرأي الآخر مع تساوي الفرص، عدالةً وكرامةً ورفاها.

إن على الدولة العربية الحديثة أن تحسم خياراتها، فمنذ سقوط الدولة العثمانية، وبقايا البكائين على الخلافة الإسلامية يستخرجون أدبيات تحاول استعادة المستحيل الذي توهموه فيها، متناسين ما نقله المؤرخون عن الأسباب الحقيقية التي نخرت في جسد الدولة العثمانية، ليستبدلوها بأوهام المؤامرة الخارجية على الخلافة، ويكفينا شاهد على الأسباب الحقيقية لسقوط الخلافة ما أورده المؤرخون نقلا عن السلطان عبدالحميد نفسه في مذكراته التي أملاها بعد خلعه عن العرش، حيث كان يهاجم المعارضة الدستورية في دولته فيقول: (قلت وسأقول، شرحت وسأشرح، ألم يكونوا يفكرون أن الدولة العثمانية دولة تجمع أمماً شتى، والمشروطية (الدستور) في دولة كهذه موت للعنصر الأصلي في البلاد، هل في البرلمان الإنجليزي نائب هندي واحد، أو إفريقي واحد، أو مصري، وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري واحد؟ وهم يطلبون بوجود نواب من الروم والأرمن والبلغار والصرب والعرب في البرلمان العثماني، لا، لا أستطيع أن أقضي على ابن الوطن الذي تعلم وفكَّر ووهب نفسه لقضيته)، ويظهر هنا أن الاستبداد العثماني لم يكن استبدادا بالمعنى الفردي، بقدر ما هو استبداد بالمعنى العنصري لعرق يهيمن على جميع أعراق الدولة المختلفة، متناسيا أن الحل الذي ظنه يستحيل على الأوروبيين قد تجاوزوه بمراحل، لنجد الأصول العربية والإفريقية تجد فرصتها في الغرب بما يعجز هؤلاء العرب والأفارقة عن كسر حلقته في بلدانهم الأم عبر أوليغاركية مغلقة متكلسة على نفسها ومن حولها، وأمامنا أوباما الأفروأميركي كمثال شاهق على مرونة الأنظمة لحماية نفسها من التآكل الداخلي.