مبادرة الملك عبدالله الأخيرة بشأن العراق شيء طيب وجميل، وذلك بمثل ما كانت مبادراته بشأن المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، أودعوته إلى تصفية الأجواء العربية ونبذ الخصومات في القمة العربية الشهيرة، أودعوته إلى التسامح بين الأديان والمعتقدات، أوغير ذلك من مبادرات إنسانية اشتهر بها الملك عبدالله، وأعطته مكانة مميزة في عالم اليوم. فالملك عبدالله عبارة عن قلب كبير في عالم من القلوب الصغيرة، وهو ممن ينطبق عليه فعلاً قول أبي الطيب المتنبي: وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم. الخلافات العربية العربية على عظمها هي صغائر في عين الملك عبدالله، وما يجري في العراق أو لبنان أو اليمن هي من الصغائر في عين الملك، ويمكن تجاوزها إذا صفت النوايا وتطهرت القلوب، ولكن هل صفاء النوايا وطهر القلوب عامل فاعل في عالم من الأحقاد المتراكمة، وصراع الناب والمخلب في غابة سياسية متوحشة؟ أشك في ذلك، بل أجزم بأن الأمر غير ذلك. أكتب هذه الكلمات الآن وقد استمعت لتوي خبر انفجار إحدى عشرة سيارة مفخخة في أحياء سكنية ببغداد، ذهب ضحيتها مئات من الأبرياء علتهم الوحيدة أنهم مختلفون، هي آخر الأخبار من بغداد المحتضرة، فهل يمكن لوضع مثل هذا أن يحله صفاء القلوب وحُسن النوايا، وذلك على افتراض أن صفاء القلوب وحسن النوايا متوفران في عالم من القبح والشقاء، كما هو عالم العرب اليوم؟

تكمن مشكلة الرائد في أن يتواجد في المكان والزمان غير الملائمين، هنا تكمن المشكلة. الملك عبدالله لا ينتمي لهذا المكان ولا لهذا الزمان، فهو فطري بطبعه، يرى الأمور ببساطة ويحاول حلها ببساطة، وأنجع الحلول دائماً أبسطها، فيما لو كانت الظروف المحيطة تسمح بذلك، ولكن ظروف المنطقة غير ملائمة لحلول بسيطة وإنسانية كتلك التي تعبر عنها مبادراته. فالملك يفكر كإنسان فطري خلق على الفطرة، ويُمارس السياسة بمنظور أخلاقي وإنساني لا أظن أن قاعدته متوفرة في عالم مثل عالم اليوم، وخاصة في عالم مثل عالم العرب. ففي الأمس القريب اجتمع قادة فلسطين في مكة، ومن قبلهم فعل الأفغان ذات الشيء، وأقسموا أغلظ الأيمان في ظلال الكعبة المشرفة أن ينبذوا خلافاتهم، وأن تبقى فلسطين هي القضية فعلاً، وليس أهدافاً خاصة غير معلنة، أو أجندة غير معلن عنها، أو اللعب نيابة عن الأخرين، ولكن ما أن انفض السامر، حتى عادت ريما إلى حالتها القديمة، ولم تجد أغلظ الأيمان نفعاً، وبقي زعماء الفصائل في صراعاتهم فيما بقي الشعب هو المُعاني الوحيد. هذه هي الصورة الحقيقية للعالم الذي نعيش فيه، عالم من المصالح والغايات التي لا علاقة لها بقضية أو مبدأ. وبالعودة إلى العراق، وهو المعني بمبادرة الملك الأخيرة، فهو قصة وحده: نسيج اجتماعي مهتريء، وحزازات طائفية ممزوجة بتعقيدات قبلية ومناطقية وعرقية، وأحقاد تاريخية متراكمة، في ظل صراعات سياسية تتخذ من كل هذا المزيج المتفجر قاعدة ودافعاً لها، بالإضافة إلى مصالح إقليمية خارجية تتحكم في مصير هذا البلد، عن طريق التحكم بهذا الفصيل أو ذاك من أقطاب الصراع، فهل يمكن لتآلف القلوب وصفاء النفوس أن يحل المشكلة ويجعل من العراق بلداً سوياً ناعماً بالعدل والاستقرار والازدهار؟ بل إن السؤال هنا هو هل يمكن أن تكون هناك نوايا حسنة وقلوب صافية في مثل هذا الوضع المثالي لكل أنواع الأوبئة السياسية والاجتماعية؟ وذات الشيء يمكن أن يُقال عن لبنان أو أفغانستان أو السودان، وغيرها من بلاد أبتليت بأمراض الحقد الدفين، والضغينة القاتلة، والكراهية المستشرية.

مبادرة الملك عبدالله الأخيرة بشأن العراق تقوم على أسس ومباديء ومنطلقات مثالية لا شك في جمالها وسموها وبعدها الإنساني، وحرصها على كل ما فيه خير الجميع، ولكن من قال إن الجمال وسمو المباديء والمنطلقات هي التي تحكم عالم اليوم؟ صحيح أن للسعودية كدولة مصلحة في استقرار المنطقة وتوازن القوى في مجتمعاتها وبين دولها، فذلك ينعكس على استقرارها في النهاية، ولكن تبقى مبادرة الملك في الخاتمة مبادرة إنسانية تسعى لوأد الفتنة وخير الإنسان في المنطقة، حين ننظر إليها وفق وجهة نظر الملك ودوافعه لإطلاقها، ولا ضير في أن يلتقي المبدأ بالمصلحة، ولكن السؤال هو هل ستنظر إليها إيران مثلاً على هذا الأساس، أي على أساس أنها نابعة من منطلقات الحرص على مصلحة وخير الجميع؟ ليس بالضرورة، بل ليس هذا هو الوضع على إطلاق العبارة، فالمبادرة من وجهة النظر الإيرانية سيُنظر إليها على أنها محاولة سعودية لاختراق الداخل العراقي، والاخلال بالتوازنات السياسية والطائفية، ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام النفوذ الإيراني المتغلغل في العراق، كمقدمة لكبح النفوذ الإيراني الممتد إلى سواحل الخليج والبحر الأبيض المتوسط، ناهيك عن التفسير الطائفي المحتمل من أن المبادرة السعودية هي محاولة من " الدولة السنية " الأولى في المنطقة، لتهميش نفوذ " الدولة الشيعية " الأولى في المنطقة، بعد أن أصبحت الطائفية بوصلة رئيسة في تحديد فكر وسلوك الفرد والجماعة والدولة في هذه المنطقة من العالم. هكذا سيقرأ الإيرانيون وحلفاؤهم هذه المبادرة غالباً، وكذلك فصائل معينة تنتمي إلى الداخل العراقي وغير العراقي، أما بالنسبة للنوايا الطيبة والمباديء السامية، بل وحتى المصلحة المشتركة في المدى البعيد، فهي آخر ما يفكر به مثل هؤلاء، إذ لو كانت المثل والمباديء والخير العام هي السائدة، لما آلت الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم من الأصل.

رحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم وهو القائل:

لا تلم كفي إذا السيف نبا صح مني العزم والدهر أبى

رب ساع مبصر في سعيه أخطأ التوفيق فيما طلبا

حقيقة لا أجد أفضل من هذين البيتين لوصف مبادرة الملك عبدالله الأخيرة بشأن العراق، لا لعلة في ذات المبادرة، أو المنطلق الذي قامت عليه، أو النية التي استندت إليها، ولكن وصفاً للظروف المحيطة التي وجدت هذه المبادرة نفسها تعمل في إطارها، إذ إن البذرة الطيبة لا يمكن أن تنمو إلا في بيئة طيبة، وبغير ذلك فإنها تذوي. لو كان الزمن غير الزمن، أو كان المكان غير المكان، لربما كانت المبادرة، وغيرها من مبادرات سابقة، حبل نجاة لهذه المنطقة في سعيها نحو الاستقرار والازدهار، بل وربما ما كان لها أن تكون طالما كانت الظروف طيبة من الأساس، ولكن في النهاية: من قال إن الاستقرار والأزدهار هما هدف الجميع؟