فجعنا جميعا بموت الكاتب الزميل هنا الدكتور عبدالرحمن الوابلي، وقد كان من أهم الأسماء التي تكتب في هذه الصحيفة منذ سنوات، وهو الذي حمل هموم هذا الوطن على كتف قلمه حتى آخر لحظة من حياته، هذا الفقد الذي لا يقتصر على أهل المتوفى، بل يتعداه إلى كل من عرفه بشكل شخصي، أو قرأ له أو تأثر بكتاباته، وهو الكاتب الذي لم يكن رحيله ليمر على الناس بسهولة. موت مثل هذا الكاتب يفتح السؤال الدائم عن موت الكتّاب، وموت الكتابة.
تعودنا في الثقافة العربية المعاصرة أن تتحول حفلات التكريم بعد أن يرحل عنا الكاتب أو الشاعر أو الفنان أو المبدع في أي مجال. بعض الجامعات تصر أن يكون الكاتب، أو الشاعر المراد دراسته في رسالة الماجستير أو الدكتوراه متوفى. ويبدو أن الموت هو قدر الكتابة والكتاب حتى يعلم الناس بعضا من قيمتهم الثقافية أو الأدبية.
في قصيدة لسليمان الفليح _ رحمه الله _ بعنوان: (موت المغني) في ديوانه الأول: (الغناء في صحراء الألم) يطرح فكرة موت القبيلة كلها من خلال موت مغني القبيلة، والقبيلة عنده يمكن أن تتسع للعرب كلهم وليس قبيلة محددة، وهكذا هو الكاتب المؤثر، ذلك الكاتب الذي هو منعجن في هموم وطنه حتى وإن خالف كثيرا من رؤى الناس التي ترى عكس ما كان يراه حتى لو خونوه وطنياً أو ضللوه دينياً، فالكتابة مشي في طريق الألغام كما يعتبرها تركي الحمد.
حينما يموت مغني القبيلة عند الفليح، فلأن هموم القبيلة التي كان يغنيها والأحلام التي كان يغني من أجلها، والآلام التي يعبر عنها في رباباته، والحب والأرض والناس الذين يغني عنهم، فإن بموته تموت القبيلة التي تحلم من خلال صوته، والتي كان هو ضمير أحلامها وضمير آلامها وضمير طموحاتها، والمجتمع الذي يموت عنه كاتبه المؤثر الذي يحمل قلمه من أجل رفعة وطنه وناسه ومجتمعه، يمكن أن يكون ميتا مجازياً، فحتى لو كان الكتاب كثيرين في المجتمع فإن القليل منهم يمكن أن يكون مؤثراً، فليس كل كاتب ذا قيمة أدبية أو ثقافية، بل القيمة لذلك الكاتب الذي يحمل الوطن في قلبه حتى لو كان ناقدا له أو للمجتمع. فالكتابة هم وطني وإنساني وفكري لا يمكن أن يكون من السهل التعامل معها إلا لمن يتحمل مصاعبها.
قد يرى البعض أن في ذلك مبالغة في هذا التصور عن الكتابة. ولعل من جربها مدة سنوات يعرف ذلك التعب اليومي أو الأسبوعي من مواصلة الكتابة، فضلا عن مدى التأثير، وفضلا عن تلك الصعوبات التي تواجه الكاتب، وتحمله على قول ما لا يمكن قوله تورية والتفافا على الكثير من المواضيع، فمهما كانت حرية التعبير عالية فإنها تبقى محدودة في أطر تضيق من انطلاق الكتابة أو الصراحة في النقد، ذلك النقد الذي هو في صالح هذا الوطن وصالح هذا المجتمع بحسب وجهة الكاتب، وهي بالتأكيد ليست صالحا مطلقا، ولكنها تبقى واحدة من وجهات النظر المتعددة.
وإذا أخذنا بالاعتبار ذلك الهجوم الذي يمكن أن يهاجمه البعض أو ربما الكثيرون، لأفكار الكتاب التي ربما تصل الكاتب أو الكاتبة في بيوتهم، أو بين أولادهم فإن الكتابة تصبح أكثر صعوبة ووجعاً، فليس من السهولة تغيير الأفكار العتيدة والعتيقة في المجتمعات، ولكن ذلك لم يكن ليكون لولا عدد كبير من الكتاب الذين تحملوا المصاعب ليؤثروا في المجتمعات. قد يرى البعض في ذلك نخبوية فكرية، والمسألة ليست كذلك، وإنما هي من رؤية الواقع، فالمجتمع مهما تحرك فإن تحركه يأتي بعد عوامل تؤثر فيه، ومن ضمنها الثقافة التي يحاول عدد من الكتاب أن يحققوها سواء في مقالة أو كتاب أو في الدروس الأكاديمية أو في المدرسة، فالكتابة لم تكن يوما بلا قيمة، بل هي القيمة الأكثر تأثيرا على مر التاريخ، فالحضارات التي نرى كثيرا من آثارها كانت الكتابة واحدة من أهم العوامل التي أبقت عليها، وإلا فكيف وصلت لنا أفكار الفلاسفة والأنبياء والمصلحين على مر التاريخ، بل كيف وصلت الأسطورة الحكاية لولا بقاء التدوين والكتابة؟
ولعل العكس أيضا صحيح، فموت الكتابة موت للكاتب. كثير من الكتاب ماتت أقلامهم وأفكارهم، فماتوا في هذا المجتمع مجازياً. حينما تتوقف عن الكتابة فأنت تحكم على نفسك بالموت. الكتابة حياة للكاتب. كانت الكتابة لإيزابيل الليندي معادلا موضوعيا للموت. حينما كان جدها يحتضر بدأت بكتابة رسائل له حتى كتبت عددا كبيرا من الصفحات لتتحول إلى روائية من أهم الروائيات وأشهرهن، وحينما ماتت ابنتها لم تستطع أن تبعد الحزن إلا بالكتابة عنها. الكتابة حياة للكاتب، وموتها موته، ومهما نافست المواقع الإلكترونية الكاتب في مجاله، فإنها لا تستطيع أن تزيحه من المشهد.
لقد كان رحيل الوابلي مفجعا، لكنه بموته يفتح أسئلة الذات، أسئلة الكتابة، أسئلة الهم الدائم والوجع الدائم، وليكشف لنا جميعا كم أن الكتابة ذات قيمة حتى لو لم نتصورها كذلك.