ما قبل البارحة، وفي ليلة "ألمعية" بالغة الدهشة، وفي حفل تأبين وتوديع راحلنا العملاق، محمد البريدي، رحمه الله، كان المشهد بمجلس ألمع الثقافي أمام كاتب يومي يبلغ ذروة الحيرة والارتباك وهنا يبدو السؤال: من أين أبدأ؟ الجواب قصير جداً، فمن العيب الاجتماعي ألا يكون "صدر المجلس" هو المقال وهو الفكرة: إنه والدنا وشيخنا فضيلة الدكتور، زاهر بن عواض الألمعي، وعلى ما أظن، بل متأكد تماماً، أنه كان أول حامل لشهادة الدكتوراة في كل هذه الجبال العسيرية.

ومع حفظ الألقاب، جلس والدنا الطاعن في العلم وفي السن أيضاً بين حمزة المزيني ومعجب الزهراني وصالح بن زياد الغامدي. لقطة حوار وطني مكتمل الدهشة. ولربما سمع والدنا من هؤلاء الأساتذة الكبار أو مما جاء بعدهم من التعليقات ما قد يجرح ذائقته أو حتى يختلف معه، وهؤلاء "الثلاثة الكبار" من عباقرة نقد المرحلة، بل وعلى مسؤوليتي هم سدنة نقد الخطاب السائد على الساحة المحلية. وكنت كلما استمعت لورقة باحث أو تعليق زميل في تلك الأمسية الاستثنائية، أضع يميني على صدري وكأنني أريد أن أقول: فضلاً لا تجرحوا مشاعر شيخ علم لا يستطيع حتى أن يرفع يده اليمنى الطاهرة بسبب المرض.

هنا يبدأ مشهد الذروة: في نهاية الأمسية المذهلة، طلب والدنا، زاهر بن عواض الألمعي، أن يختمها بألباب الكلمة. كنت أستمع إليه وكأني أربض تحت شلال هادر من الماء البارد تحت مناخ استوائي في ليلة ساخنة. يشهد الله أنني بكيت، لأنني كنت في مواجهة شيخ علم لا يعنف ولا يتنكر لذاته ونفسه أمام مجلس مكتظ واسع ينتمي للعصر الجديد من الثقافة الوطنية. قرأت في كلمته الضافية ذات فطرتي ونشأتي التي لا تعترف بأكذوبة التصنيف أو بالحزبية والمذهبية. كان يتصرف، عافاه الله، كشيخ قبيلة، وأكثر من هذا، كان صاحب الفضيلة، يدرك أنه يتكلم في مجلس قبيلة ولها من أعراف التاريخ أكثر من أن يتحول المجلس إلى ناد ثقافي.

خرجت من الأمسية الأسطورية في تأبين ووداع راحلنا، محمد البريدي، بعشرات الصور ولكن الصورة الأهم لم تكن بأكثر من كلمة الختام لوالدنا، زاهر بن عواض الألمعي. كانت كلمته عن المحبة والوفاء. عن سماحة هذا الدين العظيم وعن وسطيته. عن ثقافة القبول وعن روعة الاختلاف. كانت كل كلمة تخرج من بين شفتيه تتحدث عن طهارة وصدق نوايا الجالسين إلى يمينه ويساره، بمثل ما تتحدث عن وفاء كل الذين استمعوا إليه وهم في آخر مقعد بالمجلس. الخلاصة: كنت أستمع إلى تلك السماحة والقبول والحب من لسان صاحب الفضيلة، والدنا، زاهر بن عواض الألمعي وأنا أنظر إلى وجه ابني، مازن محمد البريدي، إلى يسار فضيلة الشيخ، ولم يكن المقام يسمح لي أن أقول له: هذا هو الخطاب الذي يجب أن تنشأ عليه: هو نفسه خطاب هذا الدين العظيم الذي سمعته من "والد... جد...". إنه خطاب الفطرة الإنسانية. ولدي مازن.. ألمع ستظل بيئة مختلفة.