لم تكن دعوة عاطفية أبدا الدعوة إلى تحسين أوضاعنا النفسية والاجتماعية من خلال منهج جديد في فهم واستيعاب موضوعي لكتاب الله، عز وجل، القصص القرآني فيه سنن بناء النفوس والمجتمعات، ولا أكتب هنا درسا في التفسير لا أجدني أهلاً له، ولكن أذكر عدة أمثلة للعقل السلوكي التجريبي، كما وصف عبدالله العروي (نقلا من كتاب (نقد التراث) لعبدالإله بلقزيز) ابن خلدون بأنه "أبدل العقل التجريدي بالعقل التجريبي، فكان رائدا في ذلك"، وإن كان هذا العقل التجريبي لم يتطور -والكلام ما زال للعروي- إلى عقل سلوكي يتجسد في الحياة اليومية والأفعال.

كلنا يشكو مخرجات التعليم في كل العالم العربي، امتلأت كتب مفكرينا وعلمائنا بوصف آلية التفكير في مجتمعاتنا بأنها آلية قائمة في الأعم على الخرافة والأسطورة حتى عند غالبية خريجي الجامعات فضلا عن بسطاء الناس، أذكر أن دي بونو رائد التفكير، صاحب القبعات الست، وصاحب طريقة الكورت cort، قد قام قديما جدا بتبسيط مبادئ التفكير لتقدم كبرنامج في إذاعة BBC، بل إن هذه المبادئ تدرس لطلبة المراحل الابتدائية في عدد ليس بالقليل من دول العالم، فكيف ننشر مبادئ التفكير العلمي السليم في مجتمعاتنا؟ كيف نستطيع أن نغرس حب العلم والتعلم في نفوس أجيالنا؟ في نفوس وأساليب مدرسينا ومدرساتنا؟ أليس الشغف بالعلم والاحتفاء به أكبر سمة لحضارتنا العربية الإسلامية، حضارة "اقرأ"؟ ألا يحتاج هذا الهدف إلى خطة عملية تفصيلية تغرس وتنشئ مبادئ العلم والتفكير العلمي في نفوس أبنائنا، بل في مجتمعنا كله؟ أليست مبادئ التفكير العلمي المستنير تعصم الإنسان -بتوفيق الله- من الحكم على الأشياء بناء على العصبيات الطائفية؟ أو بناء على عواطف وانفعالات غير مدروسة؟ أليس التفكير العلمي السليم هو الذي يساعد الإنسان على تدبير حياته والتخطيط لمستقبله؟ ألا يقوم تطور المجتمعات الحديثة على البحث العلمي ومخرجاته؟

إليكم مشكلة أخرى عويصة لها علاقة كبيرة أيضا بالتعليم: مشكلة اللغة الإنجليزية وضعف طلبتنا فيها، هذا وهم يدرسونها لعدة سنوات قبل التعليم الجامعي، أكتب وأنا ألاحظ الضعف عند عدد ليس بالقليل من طلبة وطالبات كليات الطب في بلادنا، والحق أن السؤال عن ضعف مخرجات التعلم في اللغة الإنجليزية يجب أن يسبقه سؤال عن ضعف مخرجات التعلم في اللغة العربية! هل يستطيع كل خريجي تعليمنا العام كتابة عدة أسطر بلغتنا الخالدة دون أخطاء لغوية وإملائية؟ وإليكم مشكلة أخرى: التعليم العالي ومخرجاته، ألا تحتاج إلى زيادة في التقنين، وزيادة في معرفة احتياجات سوق العمل؟ ألسنا بحاجة إلى مراجعة كثير من مناهجنا؟ ألسنا بحاجة إلى مراجعة طرق تدريسنا وتعليمنا وتقويمنا حتى لا تعود جامعاتنا كمدارس ثانوية -كما يقول معالي وزير التعليم الحالي في أحد كتبه- هل يتم اختيار من يستحق التأهيل للدراسات العليا اختيارا سليما حتى يعود فيسهم في البناء والتطوير أم أننا نؤهل غير المؤهلين فلا يعودون إلا لإعادة إنتاج التخلف؟

المال العام! وما أدراك ما المال العام؟ سلوكيات الذوق والأدب العام وأنت تمشي في الشارع، وأنت تسوق سيارتك، وأنت في عملك، وأنت في الدائرة الحكومية، وأنت تستخدم الحمام، ما رأيكم فيها؟ حسن الظن بالناس، حسن التواصل مع الآخر أيا كان جنسه، أيا كان لونه، أيا كانت هويته، وعقيدته، ووطنه، ما الدرجة التي نستحقها هنا؟ ألا يستحق هذا الأمر مشروعا وطنيا متكاملا يهب كل واحد منا يحب تراب هذا البلد لتطبيقه والمساهمة فيه بكل ما أوتي من قدرة وطاقة؟

هذا كله وغيره كثير ألا يستنزف الجهود والأعمار للعمل على تعديله وتحسينه؟ هل هذا من الحق الذي يجب أن نشتغل به ونفكر فيه ليل نهار، أم يستبدله البعض بالحديث عن "الخلافة" وكيفية الوصول للحكم؟! أو نغسل أدمغتنا بما نظنه فكرا دينيا إصلاحيا، ولا يخرج منا تبعا لذلك إلا كل سلوك عدواني تجاه الناس والمجتمعات، وننام قريري العين بعد أن كفرنا هؤلاء وأولئك أو خططنا لتفجير هنا وهناك، ظانين أن هذا دين والدين منه براء؟ ألا يجب أن يكون لدينا تصور عام لحقيقة ما نعانيه وما نريد أن نصل إليه، ومن ثَمّ أن يكون لدينا أناس مخلصون فعالون متخصصون للانطلاق بتطبيق الخطط والمشاريع؟

ولا يفهمن أحد أن هذا الطرح هو من باب تصيد السقطات أو جلد الذات! كلا! شتان ما بين النظرة النقدية الواعية المتزنة، وبين أسلوب البكاء الذي يقوم على بث مشاعر الإحباط واليأس من كل إصلاح أو محاولة إصلاح! إذا استخدم الإنسان المجهر وكبر شريحة ما ووصفها، هل يلام إذا كان ما وصفه هو بكتيريا قاتلة أنهكت مقاومة الخلايا أو يلام إذا شاهد خلايا سرطانية تتكاثر بجنون وتعتدي على كل الخلايا الأخرى؟

وقد يسأل سائل: كيف نتعلم من إعادة قراءتنا لكتاب الله وبما طرحته أنت من منهج موضوعي جديد في تفسير كتاب الله في حلول مثل هذه المشاكل؟ أولا وقبل كل شيء كتاب الله ليس كتابا في التعليم ولا كتابا في الفيزياء أو الفلك أو الطب، إنه كتاب منهج حياة! إنه يعطيك نموذجا لمن اجتهد وأبدع لكي تحتذيه في حياتك، وأنت الذي يجب أن تجتهد وتبدع! نبي الله يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- لما قال: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"؟ أليس هذا من فكر المبادرة والرغبة في الإصلاح؟ كما أنه يصدر من نفس مكتملة جميلة فيه اطمئنان وثقة وإحسان (كم مرة ذكر الإحسان في سورة يوسف؟)، ثم إن الخطة الاقتصادية التي وضعها ألم تنج البلاد من أهوال الفقر والمجاعة؟ لقد كانت هناك دراسة واعية للمشكلة، ومن ثم وضع خطط عملية لمقاومتها وإن كانت طويلة الأمد، ثم التطبيق المدروس والمتابعة الدقيقة، أليس هذا درسا لنا في العمل والإنجاز؟ وقس على ذلك قصة ذي القرنين في سورة الكهف، وكيف جعل "الذين لا يفقهون قولا" يخدمون أنفسهم، في درس رائع في صناعة النفوس قبل بناء السدود! هذا باختصار شديد جدا لون واحد من منهجية موضوعية تنير دروبنا من نور كتاب الله -عز وجل- (لا حظ أننا لم نتطرق لكنوز سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)، وإلا سنظل في التيه كما ظل بنو إسرائيل في صحراء سيناء! ويجب أن تعلو صرخة الفكر هذه لتخرجنا مما نحن فيه.