أسرتني عبارة قرأتها حديثا، وخبرتها قديما منذ أكثر من 3 عقود، وهي عبارة تتضمن معاني حقيقية لما نُعانيه من أزمات فكرية وثقافية، وقد أصابت شبابا وشابات وشيوخا وكهولا في هذا المجتمع ففرقته وجعلته ممزقا فكريا ومعنويا، وتلك العبارة هي "عندما أصبحت ملتزما"، فهي عبارة مشؤومة تتسم بالعمق للجمود الفكري في نظري، فقد فرقت المجتمعات وأسست للإرهاب الفكري والثقافي، ومن ثَم كانت قاعدة وأساسا للتنظيرات الفكرية الجهادية التكفيرية المتطرفة، تلك العبارة كانت متداولة حقيقية وواقعا في كل مجتمع يتأسس على الجمود الفكري والتشكل الظاهري للتدين، فقد عاصرها مؤرخ أميركي عندما كان يبحث عن حقيقة الحركة الدينية في الجزيرة العربية: (في المحادثات التي أجراها مؤلف هذا البحث مع كبار قادة الحركة الدينية وجدهما يستعملان عبارة "عندما أصبحت مسلما" وعندما سألهما عما يقصدانه عما كانا عليه قبل أن يصبحا مسلمين، أجابا (أنهما كانا يجهلان أمورا كثيرة من أحكام الدين الصحيحة)، وهذا الفهم أي التبدل والتغير في الأحوال لبني البشر الذين يجدون ما كان خافيا عليهم وتظهر لهم جهالتهم هو أمر طبيعي، إلا أن التطرف الشكلي في فهم ذلك التبدل وجعله علامة فارقة في تقسيم بني البشر ومن ثَم تقسيم مجتمعاتهم هو المشكل الحقيقي الذي أنتج ظواهر لا نزال نعانيها حتى وقتنا المعاصر، وذلك الفهم الذي سرده ذلك المؤرخ الأميركي منذ أكثر من 100 عام، قد ظل كامنا في فهوم أهل التدين حتى ظهر بصورة عصرية مغلفة بغلاف ذي أثر عميق في نفوس المريدين، فظهرت على شكل الإيغال في التقسيم والتشرذم المجتمعي وبشكلية ظاهرة للعيان وتم جعلها مرسومة في الشكل الخارجي لبني البشر المتكون منهم هذا المجتمع، وتلك العبارة هي (ملتزم) و(غير ملتزم)، فهذه العبارة تظهر حقيقة مستوى فهم الدين الإسلامي ومقاصده وقواعده وأسسه العامة التي يرتكز عليها، فهي عبارة تختزل الدين في ظواهر شكلية لم تكن في يوم من أيام الإسلام الحقيقي المرتكز على مقاصده الصافية وأسسه وقواعده الصحيحة والسليمة من كل شوائب الزيادات البشرية الموغلة في جعل الدين تمظهرات شكلية لا تمت لأصول ومقاصد الشريعة بصلة.
إن عبارة (عندما أصبحت ملتزما) تختزل بذرة وأساس فكر التطرف، وكذلك تعني تلك العبارة الخروج عن حقيقة المجتمعات المسلمة ورميها بالجاهلية التي كانت موجودة قبل نزول الإسلام، وجعل المجتمع الذي خرج عليه ذلك الذي أصبح ملتزما موازيا للمجتمع الجاهلي الذي بدأت فيه الشريعة الإسلامية! ويتواكب هذا التوازي بجعل هذا الذي أصبح ملتزما يوغل ويمعن في التمسك بالصغائر الشكلية وجعلها مسلمات بعيدة على التميز والاختلاف عن أصل المجتمع، والتي لا تمثل مقاصد كلية ولا قواعد عامة، وهذا التوازي يبقى عالقا في ذهنية وعمق وتفكير ذلك الذي أصبح ملتزما، فلا ينفك عنه إلا بمعرفة حقيقة وخطورة ذلك الالتزام الشكلي والظاهري، وما تؤدي إليه تلك العبارة التي أوجدت جل المشاكل الفكرية الدينية، والتي أوجدت كذلك إشكالات التأسيس والتقعيد والتنظير للفكر الجهادي التكفيري الإرهابي المتطرف، وإذا لم ينفك ذلك الذي أصبح ملتزما من تلك العبارة فإنه يبقى في كنفها ترعاه وتؤسس على عمق تلك العبارة في داخله، في روحه ونفسه حتى يرى فيما تُريد تلك العبارة ومضامينها أن يرى طريقا واحدا أُحاديا هو الحقيقة المطلقة والصائبة وما عداها هو خلاف تلك الحقيقة، وهو الباطل الذي يُحيط بكل فكر أو ثقافة تأتي من خارج منظمة ذلك الالتزام الشكلي، وما تحتويه مضامينه. فالإشكالات الفكرية المعاصرة المتعلقة بالفكر الديني الصحوي الذي اختطف المجتمعات فترات من الزمن لم تضمحل أخطاؤه ولم يتم علاجها علاجا حقيقيا يمكن القول معه إن المجتمع قد برأ من تلك الأخطاء وقد زالت منه أعراضها، بل إن تلك العبارة ما زالت تنخر في كيان المجتمعات وتتوسع طولا وعرضا فكريا وثقافيا ويتشربها أبناء المجتمعات، فيكونوا متأسسين لتلقي الفكر الجهادي التكفيري المتطرف، وإن الابتداء في كشف وتعريض الفكر الصحوي المؤسس لتلك العبارة وما تحتويه من مضامين وتوضيح خطورتها وما جرته على أبناء المجتمع ومؤسساته وسلطاته التي تؤسس للاستقرار والأمن والطمأنينة، لهو الطريق الآمن لحفظ مجتمعاتنا ووقايتها من داء التطرف والانغلاق، فلا بد أن نبدأ ذلك مع الرموز التي تدعي أنها صحوية في وضع فهم حقيقي للفكر الديني، وإعادة تشكيله كي يتأسس على مقاصد وقواعد الشريعة الكلية العليا التي جاءت للناس كافة.