إذا تزوجت الفتاة من شاب مخصب وكانت عقيمة لم تمتد العائلة، وإذا عاش رجل عقيم مع امرأة غير ولود توقفت الأسرة عند هذين الحدين؛ فالعقم من طرف واحد أو من طرفين يمنع التكاثر وامتداد النسل، وهذا ما يحصل للأفكار فعندما يجتمع فكر مغلق مع فكر متفتح توقف الخطاب بينهما ولو اشتركا بنفس لغة الخطاب؛ تماماً كما يحدث في حوار الطرشان.
ومثلا إذا التقا عربيان (إسلامي) و (ماركسي) يتكلمان بلسان عربي مبين فتحدث الصوفي بـ(آداب الحضرة) والماركسي بـ (فائض القيمة) كان الحديث بينهما أصواتاً بدون حديث؛ ليس لأن الكلمات غير عربية أو أن المرادفات شحيحة والمفردات مبهمة؛ بل لأن موجة الحديث مشوشة يتم استقبالها على تردد مختلف، والصمم هنا ثقافي وليس فيزيائيا أو بيولوجيا!
هل نستطيع التقاط موجة قصيرة على راديو لا يملك إلا قدرة التقاط موجة متوسطة؟ وإذا اجتمع رجل يرى أنه يردد حقائق السموات مع آخر يرى أن هناك انفصالا بين البشري والإلهي، وأن النصوص لا تنطق، وأن البشر يقتربون ويبتعدون عن الحقيقة بقدر فهمهم، إنهما في الواقع يتبادلان الكلمات من عالمين بشفرتين مختلفتين في جو عقيم لا ينبت زرعا أو ضرعا.
وإذا كان الوجود يقوم على الزوجية والجدلية؛ فهذا ينطبق أيضا على الأفكار؛ فكما بنيت الذرة والجزيئات على علة الزوجية، وكما تلاقحت النباتات فأنبتت من كل زوج بهيج، وكما اتصل الحيوان ببعضه لينبت من ثنايا الأرحام ذرية جديدة تتابع رحلة الحياة؛ فإن الأفكار تفعل نفس الشيء فهي تتلاقح فتتكاثر وتنبت نسلاً جديداً، ولكن بشرط الخصوبة من الطرفين.
إذا اجتمعت فكرة (آ) مع فكرة (ب) خرجت فكرة جديدة هي (ج) وإذا تلاقحت الفكرة (ج) مع الفكرة (آ) خرجت فكرة جديدة هي (ت)، وإذا كان الاتصال الجنسي ضمن المحارم حراما فالزواج بين قرابات الأفكار حلالا؟ وبذا تتحرر الأفكار وتتوالد بسرعة انشطارية فتستعصي على الفناء، وتشق طرقاً جديدة دوماً بعناد ودهاء، وتصمد أمام كل شروط تحنيطها وقتلها، وهو سر اندفاع البشرية دوماً نحو الأفضل. الزوجية تسود الوجود فهي في الجزيئات دون الذرية بوجود الإلكترون السالب والبوزيترون الموجب، وهي في البناء الذري بوجود المادة ومضاد المادة، وهي في الحيوان والنبات والإنسان بوجود الزوج القرين.. إن منبع التكاثر هو الزوجية، فمن سلبية الإلكترون وإيجابية البروتون تتعادل الذرة كهربيا، ومن التقاء الشحنات السلبية والإيجابية تندمج العناصر، ومن تزاوج الكائنات تخرج ذرية جديدة تتباين عن آبائها بثلاث صفات: أنها نسخ جديدة منفصلة قائمة بذاتها، وهي أفضل من آبائها التي خرجت منها بما لا يستطيع أن يقوم به أي جهاز تصوير في العالم، وهي ثالثا تحمل إمكانية تكرار النوع بنفس المعادلة.
يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون. يتزاوج الأفراد بهدف المحافظة على النوع، ولكن تزاوج الأفكار هو من أجل ترقية النوع فالأرانب تتكاثر منذ ملايين السنين بدون تغير يذكر في اجتماعها، والنحلة تتفاهم مع رفيقاتها بلغة الرقص، ولكنها لم تعلن عن نفسها أنها أصبحت نحلة مثقفة كما يقول الصادق النيهوم.
وكما وجد الطرش عضويا كذلك الحال في الصمم الاجتماعي حين نسمع محاورات من نموذج الاتجاه المعاكس.
اجتمع أطرشان فسأل الأول الثاني: الى أين أنت ذاهب؟
قال الثاني: إلى المسجد!
كرر الأول السؤال: إلى أين أنت ذاهب؟
أجاب الآخر: إلى المسجد!
قال الأول: ظننت أنك تريد الذهاب إلى المسجد؟
رد الثاني: لا .. أنا ذاهب إلى المسجد ألا تفهم؟
أجاب الأول: عفواً ظننتك أنك ذاهب إلى المسجد فقد اقترب وقت الصلاة. بعد دقائق فوجئ الاثنان بفناء المسجد يضمهما فلم يكن من كل منهما إلا أن أشار إلى أذنه المعطلة؟ وهذه هي لغة الحوار عندنا في كثير من اللقاءات.