عالَم المعيّنات، أعني الواقع الخارجي، متغير، متبدل، سيال باستمرار، ظروف اليوم ليست هي ظروف الأمس، وظروف الغد ليست هي ظروف اليوم، وسياق اليوم ليس هو سياق الأمس، وسياق الغد ليس هو سياق اليوم، هذا الأمر من الوضوح بحيث يكون من أبده البدائه، وأوضح الواضحات، وقد تختلف السياقات والظروف في الوقت الواحد؛ فلكل واقعة حكم، ولكل نازلة اجتهاد، ولكل زمان دولة ورجالُ.

حتى الفتوى في الدين، من حيث هي فهم، ونظر، قال العلماء إنها تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، أي إن الفتوى بما هي فتوى هي منتج تاريخي، قابل للتغير والتبدل واختلاف السياقات والظروف، تختلف لا باختلاف الزمان والمكان فقط، بل باختلاف الحال للفرد فضلاً عن الجماعة، وتختلف باختلاف حال الجماعة فضلاً عن الزمان والمكان، ومن أجل هذا نص بعض أهل العلم على أن الأصل (تجدد) الاجتهاد في كل نازلة، أي أن المفتي عليه أن ينظر نظرا جديدا وعليه أن يستدل من جديد لكل فتوى، ناظرا إلى كل (مناط) يسعى إلى تحقيقه نظرا متجددا. ما معنى هذا؟ معنى هذا أن الفهوم البشرية تنساق وراء الواقع، وتقدّم أفضل الحلول التي تملكها لتواجه ما يستجد من المشكلات، قيل في متن الإقناع: "ويلزم المفتي تكرير النظر عند تكرار الواقعة". هذا والزمن والمكان والحال ربما لا ينالها تغيير؛ فكيف حين يكون التغيير واسعا، بل ربما معضلا؟

كان العلماء مدركين لهذه الحقيقة، حقيقة تغير الزمان، وحقيقة (تاريخانيّة) الفتوى -لو أردنا أن نستعمل الأساليب الحديثة في التعبير- قال ابن القيّم يرحمه الله تعالى في كتابه النفيس (إعلام الموقعين): "والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم". هذا في الواجب الذي قطعت الشريعة وبلا مرية أنه واجب، فكيف بما هو قائم على النظر والاجتهاد لاستنباط ما يظنّه الفقيه أنه حكم؟ فما اجتهاد الفقهاء إلا بذل الوسع لاستنباط (ظنّ) أغلبيّ، أي ما يغلب على ظنّ الفقيه أنه حكم الشريعة، ولذا قيل: لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد. لأن ظنيا لا ينقض ظنيا. كلاهما له حق الوجود، وكلاهما نظر يجوز الأخذ به ما دامت اتبعت الشروط وتوافرت النزاهة بلا نكير، ولهذا قال العلماء: لا إنكار في مسائل الاجتهاد. ما يدلّك على أن (الإنكار) إنما هو فيما خالف ما قطعي الشريعة -بلا مثنوية- وما أجمع عليه المسلمون.

والتقسيم في (الاجتهاد) ما بين أصول الدين وفروعه تقسيم محدَث، إنما أحدثه المعتزلة، نصّ على ذلك ابن تيميّة رحمه الله؛ فكل مجتهد في أصول الدين وفروعه عند ابن تيمية معذور، واستدلّ -فيما استدلّ- بحديث الرجل الذي أوصى أبناءه أن يحرقوه إذا مات قائلاً: "إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذرُوني في الريح في البحر، فوالله لئن قدَر عليَّ ربي ليعذبني عذابًا ما عذَّبه به أحدًا، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدِّي ما أخذتِ، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملكَ على ما صنعتَ؟ فقال: خشيتُك يا رب -أو قال: مخافتك- فغفر له بذلك". رواه الشيخان. غفر الله له؛ رغم أنه شكّ في قدرة الله لعلم الله بحسن مقصده. هذه فضيلة من فضائل الاجتهاد ولو خاطئا، وفي صفة من صفات الله فضلا عن المسائل التي تنازع فيها أهل القبلة.

لقد كان الأئمة الأربعة ينهون عن الكتابة عنهم؛ لأنهم يعلمون أنهم قد يقولون القول اليوم ويبدّلونه غدًا، ذكر ابن أبي يعلى في الطبقات في سيرة أحد أصحاب الإمام أحمد وتلاميذه أحمد بن الحسين بن حسّان أن رجلاً أراد أن يكتب رأيًا للإمام أحمد فقال له: أريد أن أكتب هذه المسائل فإني أخاف النسيان، قَالَ له أحمد:" لا تكتب شيئًا فإني أكره أن أكتب رأيي"، قال: "وأحس مرة [أي أحمد] بإنسان يكتب ومعه ألواح فِي كمه، فقال: لا تكتب رأيي لعلي أقول الساعة بمسألة ثم أرجع غدا عنها". وورد مثل هذا عن أبي حنيفة. ما يدلّك على أن الأئمة أنفسهم ما كانوا يرون أن آراءهم معطى ناجز ومنتهٍ، وصالح لكل زمان ومكان! لكنّ أتباع الأئمة رغم هذا كتبوا عنهم، وإذا آراؤهم التي كانوا هم أنفسهم مقتنعين وموقنين أنها قابلة للتغير والتبدّل؛ إذا آراؤهم ومذاهبهم تقدّم للناس باعتبارها أصولاً خالدة يتمّ التخريج عليها مدى الزمان، وعبر الدهور!

كل شيء قابل للتغير والتبديل، المناهج تتطوّر وتتغيّر، والواقع يتحوّل ويتبدّل، والمناطات لا تعود اليوم كما كانت بالأمس، والمفاسد والمصالح تختلف على الدوام، فكيف إذن يراد لمنظومة فكريّة ألا ينالها تغيّر، ولا تتعرض لنقد ذاتي حقيقي تواكب به الزمان، وترعى به مصالح العباد، وتيسر عليهم حياتهم؟ بغض النظر عن (اسم) هذه المنظومة. وسواء أكانت منتسبة للسلف الصالح أو غير ذلك؛ فإن السلف الصالح أنفسهم يقررون القواعد التي تدل على تغير الفتاوى بتغيّر الأحوال.

وربما تثقل المنظومة على العباد لأنها تلقي بالعداوة بينهم وبين الواقع -بحسب تعبير ابن القيّم- وتشاكس بينهم وبين حياتهم؛ فيلجؤون إلى الفرار منها إلى غيرها، فحين تعاني أي منظومة من انسداد فكري واضح؛ يفرّ الناس إلى منظومات أخرى تجيب عن أسئلتهم وتلبّي احتياجاتهم، وقد يكون الخير كل الخير في أصول المنظومة التي يفرّون منها، لكن تطبيقاتها، وطريقة عرضها، وجمود أتباعها، تعاني تراجعا لا يمكن حلّه إلا بنقد ذاتي، جذري، وحقيقي، ومخلص، فهل يمكن هذا، أم ترانا نردد ما قاله الشاعر العربي:

فيا جارتا في الخيف، إن مزارها.. قريبٌ، ولكنْ دون ذلك أهوالُ!