منذ عام 2001 وبشكل أكثر تحديدا، بدأ العالم يتنبه جيدا لمخاطر الإرهاب على الأمن والاستقرار والنماء، إثر الهجمات الانتحارية المنسقة في 11 سبتمبر على برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطن. ذلك لا يعني أن تأريخ الأعمال الإرهابية قد بدأ مع هذا التاريخ، بل هي طبيعة الحدث غير المسبوق في التاريخ الإنساني، والعدد الكبير من الضحايا التي تسببت فيها عمليات الإرهاب، وبشكل خاص في الهجمات على البرجين المذكورين.
منذ ذلك التاريخ، توالت العمليات الإرهابية لتشمل أرجاء المعمورة كافة. والحرب التي شنت على القاعدة، والتي تحت ذريعتها جرت الحرب على أفغانستان والعراق، لم تحقق أي نجاح. بل إن الرسم البياني يشير إلى تمدد ونمو مطرد في عمليات الإرهاب. ومنذ ذلك التاريخ أيضا، باتت ظاهرة الإرهاب الشغل الشاغل للباحثين والمحللين الإستراتيجيين والإعلاميين، ونشرت آلاف الكتب والدراسات والمقالات في محاولة لتفسير هذه الظاهرة، انطلاقا من المقولة المأثورة بأن معرفة سبب الداء مقدمة لأزمة لإيجاد العلاج الناجع له. لكن شيئا جوهريا يمكننا الجزم إلى حد بعيد أنه أغفل في قراءة هذه الظاهرة، ذلك هو سياقها التاريخي.
نجادل في هذه القراءة أن استفحال هذه الظاهرة هو أحد إفرازات سقوط النظام الدولي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، وأبرز سماته الثنائية القطبية واشتعال الحرب الباردة. ونجادل أيضا أن أي تغير في موازين القوى الدولية يؤدي إلى اشتعال حروب كبرى، تسبق انبثاق النظام العالمي الجديد. وأن مرحلة الانتقال من نظام دولي إلى آخر يرافقها انتشار للفوضى، وتعطل للقانون الدولي، والمواثيق التي ترتبط به. وتكون مصحوبة أيضا باشتعال الصراعات والحروب الأهلية، وطغيان الهويات الصغرى.
انبثاق نظام دولي جديد هو نتاج تسويات تاريخية، تعكس مستوى التوازنات بين صناع القرار الكبار. والحروب الصغرى التي تنشأ بعد تلك التسويات تتحقق إما بفعل غموضها، أو نتيجة سعي أحد الأطراف الكبرى إلى تقوية أو توسيع جغرافية مصالحه الحيوية. فتظل تلك الحروب محكومة بإرادة صناع القرار الكبار، بما يخلق معادلة واقعية، مفادها بأن الاتفاق بين القوى الكبرى، والتسليم من قبلهم بموازين القوة من شأنه أن يرصن العلاقات الدولية.
وإذا ما قمنا بقراءة سريعة للواقع السياسي العالمي، قبل تصاعد دور منظمات الإرهاب، سنلحظ أنها أتت بعد هزيمة النظام الدولي الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولأن النظام الدولي السائد تأسس بثنائية قطبية، فإن سقوط ركن منه يعني انفراط عقده.
توجت إدارة الرئيس جورج بوش الأب على عرش الهيمنة الأممية، وتم ذلك بحروب إقليمية محدودة، الأبرز بينها احتلال بنما، والتدخل العسكري في راوندا، ومن ثم المشاركة في حرب الخليج الثانية، ثم تسارعت التدخلات العسكرية الأميركية في العالم بعد 11 سبتمبر 2001، باحتلال أفغانستان والعراق، فيما عرف بالحرب العالمية على الإرهاب.
لم تبرز قوة متكافئة في القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، لتحدث تسوية تاريخية، ينتج عنها ترصين للعلاقات بين الأمم. وذلك نشاز في التاريخ الإنساني. لأن العلاقات بين الأمم محكومة بالتنافس وصراع الإرادات، وليس باستسلام العالم بأسره لقوة متفردة.
وفي ظل غياب التنافس الدولي برزت الطفيليات في شكل منظمات الإرهاب، من القاعدة وأخواتها، لتملأ الفراغ. وما نشهده الآن هو أقرب للحروب العالمية. والفارق هنا أن الحروب العالمية تجري بين جيوش نظامية، وأن هذه الحرب تدار من قبل عصابات القتل. لكن ذلك لا ينفي وجود تشابه بينها وبين تلك الحروب، من حيث قابليتها للتمدد إلى بقاع جديدة من المعمورة، واستخدامها للأسلحة الفتاكة. والأهم أن كل الحروب تسبق التسويات التاريخية بين صناع القرار الكبار.
في الحروب الكونية تتشكل ملامح النظام الجديد الذي سيعقبها. وكلما اقتربنا من لحظات النصر، اتضحت أكثر معالم النظام الجديد، الذي سوف ينبثق من تحت رماد تلك الحروب وركامها. وتتحقق لحظة الهزيمة كلما اقتربت معالم التسويات التاريخية بين صناع القرار الكبار.
وقد رأينا منذ مطالع هذا القرن بروز إستراتيجيات أميركية لمحاربة الإرهاب، تحت شعارها برز مشروع تفتيت البلدان العربية، فيما بات معروفا بمشروع الشرق الأوسط الجديد. سحق العراق، واحتلت أفغانستان، لكن الإرهاب استمر في الانتشار والصعود. ولم يكن لأحد القدرة على لجمه. فقد كان التعويض المباشر عن غياب التسويات التاريخية، ومعها غياب النظام الدولي، وتراجع دور المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، وغياب صراع الإرادات.
وحتى بعد احتلال المحافظات العراقية الأربع من قبل داعش: الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، وإعلان أميركا التصدي لداعش، وعودة قوتها الجوية مجددا إلى أرض السواد، لم يحدث أي تقدم على صعيد مواجهة الإرهاب، فضلا عن إلحاق الهزيمة به. وبرزت الاتهامات المتبادلة بين حكام بغداد والأميركيين حول أسباب الفشل.
فقط بعودة روسيا مجددا إلى المسرح الدولي، ومشاركتها عسكريا في سورية، تغير مشهد الحرب على داعش. ليس ذلك لأن روسيا قوة فتية وجامحة فقط، بل لأن ذلك حمل معه عودة التنافس بين صناع القرار الدولي على مواقع القوة.
لقد كانت نتيجة التدخل الروسي معاودة الأميركيين تدخلهم العسكري بفعالية في العراق، وضرب داعش بقوة، وإلحاق الهزيمة بها في صلاح الدين، وتحقيق انتصارات باهرة في الأنبار، ويستعد الجيش العراقي لتحرير نينوى. وفي ذات الوقت حقق الروس انتصارات كثيرة على الجبهة السورية، واتفق الأميركيون والروس على تحقيق هدنة عسكرية بين قوات النظام والمعارضة، صمدت حتى الآن لعدة أسابيع. رغم ما شابها من خروقات.
وهكذا رأينا أن الخلاصة أن ترصين العلاقات الدولية رهن بتحقيق تسويات تاريخية بين صناع القرار الكبار، على قاعدة الاعتراف بالموازين الدولية الجديدة. إن ذلك وحده هو الذي يتكفل بملء الفراغ، ويؤدي إلى هزيمة ماحقة للإرهاب.