تفشى بعد انتشار وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي موضوع الاستتار وراء الأسماء المستعارة، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، فأحيانا يكون المكتوب ذا هامش رفيع من الشفافية ويخشى الكاتب من الضرر على نفسه، وهناك من لا يجد مانعا من كشف اسمه من حيث المبدأ ولكن تمنعه طبيعة عمله، وبالتالي لا يلزم بالضرورة أن كل كاتب يخاف مما يكتبه أو يخجل منه وإنما يلتزم بقوانين أو أعراف معينة، بخلاف من يستتر وراء الأسماء الوهمية لينال من البلاد والعباد، فهذا إن استتر عن المخلوقين فلن يستتر عن الخالق جل وعلا، ومن راقب الله فيما يكتبه ويقوله فهو الموفق في الدنيا والآخرة.
ولكن في المقابل هناك لازمة فكرية خاطئة عند الكثير من الناس، فهم يثقون في المكتوب ويقبلون به، لا لقوته ودلالته وحجيته، وإنما لاسم كاتبه أو مراجعه أو مقرظه أو ناشره أو مزكيه، وفرق بين الخبر والحكم والفكر، فالخبر لا بد من عدالة المخبر، وبالتالي يلزم معرفة الناس له وتواتر مصداقيته ولا يلامون حين يشترطون عدم نكارته، ولكن عند الحكم الشرعي فلا يقبل إلا بدليله ما لم يكن المتلقي جاهلا ويحتاج للتقليد فيقلد الأعلم الأتقى بنظره، والحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، وأما الفكر فهو عقلي لا علمي، ويحتاج لتأمل ونقاش، وبالتالي فلا يسوغ التسليم به والاستسلام لقائله ما دام شأنا عقليا يقبل الأخذ والرد، وعليه فنقول بأنه لا يجوز أخذ الفتوى الشرعية من مجهول مستتر وراء اسم مستعار، ومن باب أولى إخباراته، ولكن المسائل الفكرية تؤخذ ممن عرفت وممن لا تعرف، لأن العبرة بالكتابة وليست بالكاتب، والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها، وقصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان خير دليل، حيث أعلمه بفائدة آية الكرسي، ومع ذلك حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدل وإنصاف حينما قال "صدقك وهو كذوب"، وهذه عبارة خالدة ومنهج حياة شامل بأن نستفيد من الجميع القريب والبعيد والصديق والعدو والموافق والمخالف وهكذا لأن المصلحة تقتضي ذلك وبكل عقلانية.
وهذه التنظيرات قد تكون محل تسليم بين الكثير من الناس، ولكن عند التطبيق فتذوب القناعات المسبقة وتبقى الممارسات اللا إرادية وبدون وعي، فتجد طلبة العلم يقولون هذا الكلام ويكتبونه، ولكنهم يخالفونه، فنقول حينها لعلهم بلا قصد فعلوه وبلا وعي تركوه، فنُذَكِّرهم، ثم نتفاجأ بالإصرار عليه، وهو هنا إما من باب الحرج والخوف من الاعتراف بالخطأ، وإما من باب التناقضات التي لا تنتهي عند بعض الناس، فتراه ينقل فتوى الشيخ فلان ويدافع عنها ويلزم الناس بها، وإذا خالفته في ذلك ومارست حقك في عدم العمل بفتواه إذا به يسفه قولك وربما ضللك، في حين لو أنك نقلت قول شيخه بدون أن تخبره بأنه له لربما خالفه وناكفك عليه، وهذا دليل على أنه صاحب هوى، والمشكلة ليست متوقفة على حد تناقض منهجه وإنما الأسوأ إلزامه لغيره بذلك وتحكمه به ومصادرة خيارات الآخرين حتى ولو كانوا من العلماء والمجتهدين، وهنا يجب علينا أن ندرك بأننا نردد الكثير من الأصول والقواعد والنظريات ولكننا نناقضها دون أن نشعر، وإذا كان تناقضنا بحسن نية وبلا وعي فيجب حينئذ أن نفرح بمن يذكرنا به وينصحنا عليه، وإلا فنحن نكابر ولا نريد بذلك وجه الله والدار الآخرة.
وكدليل فعلي على صحة هذه المشكلة العلمية والفكرية ما نراه من تعصب لآراء علماء معاصرين ثم إذا ماتوا وانفض عنهم مريدوهم إذ بفتاواهم تموت معهم أو تصبح في أحسن الأحوال ضمن الأقوال كتاريخ فقهي مثل غيرها من أقوال السلف.
وكنموذج على ذلك لنأخذ فتاوى المفتين الرسميين وكيف أن قوتها تذهب بخروجهم من عملهم أو تقاعدهم ناهيك عن وفاتهم، ثم ينتقل زخم قوتها إلى الخلف، وكأنها أوامر وولايات لا آراء واجتهادات تبقى ما بقيت الحياة وليست متعلقة بحياة قائلها.
وختاما كم نحتاج لمن يضع المرآة أمام مسيرتنا العلمية وممارساتنا السلوكية فينصحنا عن أخطائنا ويقوّم تناقضاتنا حتى نهتدي، وليس بأن نكابر الحقيقة ونناكف الحق، وإنما نفرح به ونسارع إليه، سواء عرفناه من عند أنفسنا أو دلنا عليه آخر، والله الهادي إلى سواء السبيل.