"تعاني مريضتي دي جي من شلل كامل في جانبها الأيسر، ولكن عندما أسألها عن ذراعها اليسرى، تقول إنها بخير، وإنها ربما فيما مضى، كانت مختلة ولكنها لم تعد كذلك. عندما أطلب منها أن تحرك ذراعها اليسرى، تبحث عنها حتى إذا ما وجدتها سألتني إن كنت أريدها حقا أن تتحرك. فقط حينها تعترف بأن ذراعها لا تبدو قادرة على فعل الكثير بمفردها. وغالبا ما تعمد إلى استخدام ذراعها السليمة لتحريك ذراعها المصابة وتصرح قائلة: ولكن بإمكاني أن أحركها بيدي اليمنى!".

هذه حالة واقعية يشرح بواسطتها عالم وطبيب الأعصاب الأميركي (أنطونيو داماسيو) حالة عجيبة من اختلالات الأعصاب تسمى بالعربية (عمه المرض)، يعجز فيها المريض عن الشعور بالخلل في جسده لو وُجد. وهي لا تشبه حالات الإنكار النفسي التي قد يصاب بها البعض، بل هي ناشئة عن خلل عضوي حقيقي في أنسجة النصف الأيمن من الدماغ، لذلك فالأمر يتجاوز غياب الإدراك الوقتي إلى غياب الذاكرة المتعلقة بالتجارب مع العضو المشلول وإن كان من الممكن تذكر بعض ما يتعلق بإخفاقه تدريجيا، وهذا ما يفسر جواب المريضة بأن ذراعها ربما عانت خللا في السابق، لكنه زال في النهاية!

من الممكن استعارة النعت بعمه المرض لوصف حالات أخرى معقدة من الطبيعة البشرية، وهو ما سأفعله بعد رؤيتي الخروج الأخير لزعيم اليمن المخلوع في جمهرة من المؤيدين له. يشكو هذا الرجل من شيء مشابه لعمه المرض بالفعل، فهو بالنظر إلى مفردات خطابه فاقد للإدراك الآني للخلل، كما أن ذاكرته لا تسعفه في استيعاب ما حدث.

عمد الرجل بشكل يائس إلى طرقه البدائية في التحشيد المفتعل، ولجأ إعلامه إلى استعمال صور حشود في مناسبات قديمة، زاعما تزامنها مع الجمهرة الأخيرة بشكل ساذج لا يكلف كشفه الكثير من الخبرة التقنية!

نسي الرجل أمرا مهمّا متعلقا بمفهوم الشرعية السياسية، وهو أن أعظم شرعية تستند إليها الدولة هي شرعية الإنجاز، فبعد ما يقارب 30 عاما من الفشل لا قيمة إطلاقا لأي حشد من المناصرين. فكيف بالأمر والحشد نفسه ليس أكثر من حذاء بكعب عال لا أكثر، من الممكن أن يضفي على فتاة قصيرة شعورا وهميا بالرضا، وربما الزهو، ولكنه يزول حتما بمجرد خلعها له. وهو ما أزعم حصوله مع صالح بمجرد تفرق حشده المفتعل!

يعرف اليمنيون وكذلك التحالف الوزن الحقيقي الذي يشكله أنصار صالح في المعادلة، فالمملكة مثلا يعيش في ربوعها أكثر من مليوني يمني مع عدم توقف تأشيرات دخول اليمنيين إلى حدودها طوال مدة الحرب، مما يؤكد اعتماد المملكة في هذا المستوى من الطمأنينة على علمها اليقيني بالموقف الداعم للشرعية لدى أغلب اليمنيين، وهو ما توضحه الأحداث كل يوم من تقدم للمقاومة وتراجع للقوى الانقلابية.

نعم ربما ما زال حوله بعض الموهومين به، لكنهم لا يشكلون نقطة فارقة في حقيقة الأمر، بل إن المؤشرات دالة على قرب تخليه عنهم مع أول فرصة تفاوضية تضمن له الخروج ببعض المكاسب. حينها سيكون حال أولئك الموهومين مشابها لتلك الحالة التي صورها فيلم 2012، حيث كان هناك بعض الجنود الذين يدفعون الناس بحماس منعا لهم من الصعود على متن السفن التي ستنجو بسادتهم من الهلاك، مما دفع بأحد المتدافعين إلى الصياح بهم قائلا: "ألا تلاحظون أن السفن ستغادر وتخلفكم لمصيركم معنا؟".

كل هذا لا يحول دون عودة الأمل، يعبّر عن ذلك تلك الصورة التي رأينا فيها شباب اليمن يستخرجون الألغام التي خلفها الانقلابيون ويزرعون الورد بديلا لها في الحفر ذاتها، في تجسيد رمزي لكل ما قامت عليه فلسفة المقاومة منذ البداية.

فالأمر لا يتوقف على مجرد استخراج اللغم، بل على ما سوف يحل مكانه من حياة. ذلك هو التحدي التنموي الذي ينتظر الشعب اليمني بعد انكشاف هذه الغمة. وهو ما يتطلب ذاكرة نشطة وإدراكا يقظا لا ينال منه الـ"عمه".