لم تبدع الصحوة في شيء كما أبدعت في غرس قيم الكراهية والعداوة والشك والتوجس وسوء الظن بالناس، فهي تنظر إلى الدين على أنه مجرد عبادات محضة لا علاقة له بالأخلاق، صحيح أنها لم تستطع إلغاء النصوص الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة التي تأمر بالعدل والمحبة والتسامح والرحمة والعطف والرأفة حتى بالحيوان، لكنها قيدتها بما يشبه الإلغاء، بعد أن قصرتها على فئة خاصة من البشر، هذه الفئة لا تنحصر في المسلمين، ولا في أهل السنة والجماعة، ولا حتى في السلفيين بالمعنى الضيق الذي يخرج بموجبه كل من اختلف معهم في أبسط حكم أو رأي، لكنها تلك الفئة التي تعطي العصمة لرموز الصحوة وتتعصب لآرائهم، وتذب عن أعراضهم وتنتصر لهم ظالمين أو مظلومين، فلا تأخذ من الدين إلا ما يتفق معهم، ولا تثور إلا من أجلهم، فتطيعهم في السراء والضراء، حتى إن الصغيرة في الدين قد تصير كبيرة أمام إصرار رموزهم، وما هو مباح قد ينقلب إلى مخُرِج من الملة بمقاييس هؤلاء الرموز، والأتباع بناء على ذلك يحبون ويكرهون ويوالون ويعادون، ونتيجة لهذه التربية القائمة على الطاعة الكاملة والانقياد الأعمى، كان الحصاد أتباعاً جمعوا بين الجهل وسوء التربية، لا يتورعون عن الشماتة حتى بالأموات، وشاع سلوك بين هؤلاء الرموز لا يختلف كثيراً عن سلوك الباباوات في العصور الوسطى حين كانوا يُخرِجون من الدين كل من لم يذعن لرأيهم، أو يخرج بفهم يتعارض مع تعاليمهم، بغض النظر عن دليله وحجته، ولذلك رأينا كثيراً من العلماء في ذلك العصر قد تم قتلهم أو إحراقهم لتهم تتعلق بالزندقة أو الكفر لمجرد أنهم خرجوا عن تعاليم رجال الكنيسة، قبل أن تنقلب هذه الممارسات إلى عداوة ليست لرجال الدين فحسب، بل للدين نفسه، لصعوبة الفصل بين الدين ورجاله، واعتياد الحكم على الأشياء بظواهرها.
أما القضايا التي لم يرد فيها نص صريح صحيح فيؤوله دعاة الصحوة بالشكل المتطرف الذي ينسجم مع أجنداتهم، حتى لو كان هذا التأويل فاسداً يتعارض مع القيم الكبرى في الإسلام، ويصطدم بشكل عنيف مع الواقع، كما أنهم لم يتعاملوا مع تأويلهم على أنها وجهات نظر، قابلة للأخذ والرد والخطأ والصواب، بل قدموها على أنها الحق المطلق والفهم الصحيح الوحيد للدين، وكل ما سواها فهو حرب على الإسلام والعقيدة، إضافة إلى أن أحكامهم لم تتوقف عند حال الإنسان في الدنيا، بل تنتقل معه إلى الآخرة، وبمجرد أن ينقضي أجل الإنسان نصبوا له المحاكمات، فإن كان من جماعتهم فهو مغفور له لا محالة، وسيُمنَح صك غفران يدخل بموجبه الجنة، لأنه كان مطيعاً لهم مذعناً لأحكامهم محباً لأهل الدين والصلاح! أما إن كان من المختلفين معهم حكموا له بالنار، ومنحوه صك عذاب يدخل بموجبه النار على اعتبار أنه محارب لله والرسول!
هناك قيم إنسانية فطرية يشترك فيها الناس كافة، بما فيهم الملحدون الذين لا يؤمنون بالأديان، ولكنهم يتعاملون مع الإنسان بصفته إنساناً بغض النظر عن دينه ومذهبه وملته، وقد كان لدى العرب قبل الإسلام مقاييس خاصة بالخير والشر والحُسن والقُبح، يحتكمون إليها عند أزماتهم، ومن يُخل بها يصبح منبوذاً مكروهاً لا يحترمه أقرب المقربين إليه؛ حتى إن أبا جهل حين قرر قتل النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة تفريق دمه بين القبائل، رفض بشكل قاطع أن يُدخَل عليه في منزله ويُقتَل معللاً ذلك بقوله: (حتى لا تقول العرب: إننا فزَّعنا بنات محمد!)، وحين أتى الإسلام عزز من هذه القيم النبيلة، وشجع عليها، بعد أن جعلها عبادة يُثَاب فاعلها، وقد تكون على بساطتها سبباً في دخوله الجنة، مثلما جاء في حديث المرأة البغي من بني إسرائيل التي سقت كلباً فغُفِر لها، وكذلك المرأة التي قيل عنها إنها تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل وتتصدق لكنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال عنها الرسول عليه السلام: (لا خير فيها، هي من أهل النار).
في بداية ظهور الصحوة ورغم الخلاف الكبير بين دعاتها والدكتور غازي القصيبي، والذي وصل حد تكفيره، وإلصاق شتى أنواع التهم به، وتأليب الرأي العام عليه، إلا أنهم حين سُجِنوا بسبب مواقفهم المناهضة للدولة، وسُئل هو عن هذه الخطوة المتخذَة، لم يبرر ذلك، مع أنه في موقف السياسي المطلوب منه تبرير كل عمل تقوم به الدولة، بل قال (لا يصح أن نتكلم عنهم ونحن هنا في هذا المكان، وهم هُناك في مكان آخر، لا يستطيعون التعبير عن وجهة نظرهم، ولا الدفاع عن أنفسهم)، بينما وجدنا بعض الصحويين قد انثالوا عليه سباً وشتماً ولعناً بعد موته، وهم يتضرعون إلى الله أن ينزل عليه أشد أنواع العذاب، والأمر ذاته تكرر مع الراحل طلال مداح، رغم عدم عداوته لهم، وبعده عن الشأن الفكري، عندما حاكموه بناء على أفهامهم، وحددوا المصير الذي سيكون عليه في الآخرة، مع أنه لم يقتل ولم يحرض ولم يُعرْف عنه أنه آذى أحداً لا بالقول ولا بالفعل، ثم تكرر نفس السلوك قبل يومين حين أساء أحدهم إلى كاتبنا عبدالرحمن الوابلي -رحمه الله- مع أن الوابلي معروف بحسن خلقه وتواضعه وتسامحه، وأذكر في حديثي معه عند اعتقال أحد رموز الصحوة أنه قال "أتمنى الإفراج عنه في أقرب وقت ممكن"، كما أنه لم يفعل في نقده لهم أكثر من قول الحقيقة، عندما فضح سلوكياتهم، وتجنيدهم للشباب في الالتحاق بالجماعات المتطرفة، هذه الجماعات التي تشكل خطراً وجودياً على الدولة، وفعلت في تشويه الإسلام أكبر مما فعله أشد أعدائه، غير أن الصحويين أرادوا بذلك إرهاب الشباب من الخروج عن طاعتهم والانصياع لأوامرهم، بعدما أفهموهم أن أدنى خلاف مع رموزهم هو بمثابة الخلاف مع الله والرسول، وما دروا أن الشماتة بالموتى عمل تأباه الفطر السوية، والأنفس السليمة.