من الحقائق التي يراها المتفحص بعين النقد لما نراه في عالم فكر التطرف للجماعات المتأسلمة أنها تنتهج فكراً دينياً يتأسس على إسقاط بعض النصوص الشرعية الدينية على واقعنا المعاصر، وكذلك يتأسس ذلك الفكر المتطرف على أسس ثقافية أخلاقية تُبرر ذلك التطرف الموغل في اللاإنسانية. وهذان التأسيسان هما عاملان مشتركان بين الجماعات الجهادية المسلحة ذات المسحة الدينية السنية، وقد وجد أثرهما في واقعنا المعاصر من خلال تلك الأحداث التي رآها العالم منذ تفجيرات القاعدة في كينيا وتفجيرات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، ثم تفجيرات لندن ومدريد، وصولاً إلى تفجيرات باريس في نوفمبر 2015، ومن ثَم تفجيرات تونس، وتركيا ثم تفجيرات بروكسل، وهذا الأثر في تلك التفجيرات الدامية وما حصدته من أرواح ذهبت سدى، اكتوى بنارها أقارب أولئك الذين تم سلب أرواحهم دون أسباب حقيقية تعول عليه الإنسانية بشتى دياناتها في هذا الكون، يُظهر بوضوح يقيني أن هذا الأعمال -وأعني بها تطرف فكر الجماعات المتأسلمة المسلحة التكفيرية- قائم على أصلان يتوجب معرفتهما ودرسهما واستيعابهما بحرفية ومهنية منا نحن أبناء هذا المجتمع المنكوي بنيران الفكر المتطرف للجماعات المتأسلمة، وذلك قبل طرح الحلول، سواء أكانت السياسية أم الأمنية أم الثقافية، وقبل أن يُلقي علينا من تأسيسه وفلسفته المعرفية قائمة على المصالح النفعية ذات الأطماع الشخصية، وقبل أن يُحاضر فينا من لا يعرف حقيقة مجتمعاتنا وأسسها المعرفية والتاريخية وعلاقتها بالسلطة الحاكمة كي لا يُحدث ذلك المتغير الخارجي شرخاً في إيغال صدور أولئك الأغرار من أصحاب مريدي حقوق الأنسنة ذات القصود غير المتأسسة على صفاء ونقاء تلك الحقوق، لأننا نحن أبناء هذا المجتمع من يعرف حقائق علله ويعلم يقيناً أنه لا حلول حقيقية لهذه الإشكالات إلا بالصدق والنقاء والصفاء والشفافية وتقديم المصلحة الوطنية العامة على كل شيء، وذلك كي يبقى المجتمع متماسكاً متحداً بقيادته ذات الصدق والعدل بعمومهما.

والأصلان اللذان يقوم عليهما الفكر المتطرف للجماعات الجهادية المتأسلمة هما أولاً: قيامه على أسس "معرفية" يتغذى منها ويرجع إليها ويعول على أصولها وفهمها التي يُريدها أن تكون أصولاً له ولا يقبل غيرها، وهذه الأسس تتمثل في فهمه وتصوره الوحيد لعموم أمور التوحيد والحاكمية والعلاقة مع السلطة، والعلاقة مع الآخر، وفهما الولاء والبراء، ومعنى المجتمع المدني ومفهوم الدولة، وكيف نفهم الجهاد وأسسه وما علاقة الجهاد بعصرنا، وكيف يمكن فهم الفتاوى الماضية في ظل عصرنا المتطور ومن يحق له الفتوى في ظل فهمه للدولة أم في ظل فهمه لأمور الأحكام السلطانية والخلافة، وماهية حقيقة وطبيعية الخلافات العقدية مع الآخرين ممن ينتسب للإسلام من مذاهب وفرق، وحقيقة الفرقة الناجية، فهذه الأسس المعرفية وغيرها مما لا يمكن حصره في هذا المقال، وما لم يتم تفكيكها وعرضها على أصول ومقاصد الشريعة والفكر المعاصر وتصحيح الخطأ فيها وإبطال الفاسد منها وتوضيح اعتلاله ومناقضته لأصول ومقاصد الشريعة وبيان الضرر المحقق في ركوبه وجعلها ديناً وملةً وشرعةً ومنهاجاً للمسلمين في الحياة؛ فإن جميع المنتديات والمؤتمرات والاتفاقيات والندوات لن تجدي نفعاً، وسيبقى الفكر المتطرف للجماعات المتأسلمة. والأصل الثاني الذي يتأسس ويقوم عليه الفكر المتطرف للجماعات الجهادية المتأسلمة هو الأسس الثقافية والأخلاقية التي تتمثل في تضخيم سلب التحركات في الحياة المُعاشة للمريدين وجعل أولئك المريدين يقبعون في حالة دنيوية ونفسية من الإحساس والشعور بالمظلومية والوقوع تحت طائلة الظلم، وذلك أن كثيراً من النفوس تجعل تصور وقوعها تحت طائلة الظلم مبرراً حقيقياً لارتكاب أشنع الأفعال والتصرفات الإجرامية وتصويرها على أنها أفعال تمثل الهدف الأسمى، وما تصرفات داعش الإرهابي منا ببعيد، بل يتم جعل هذا السبب طريقاً للخلاص وافتداءً للغير، كي يتم انتشال عثرات الجماعة من محق الحياة المفروض على جماعات التطرف والتأسلم، وهذه الأسس نجدها ظاهرةً في أقرب مثال حي وهو مثال تفجيري قتل أكثر من 13 من رجال الأمن الرئاسي التونسي، حيث إن المنفذ للهجوم كانت له مظلمة بسبب فصله من وظيفته وقد كان يعمل في السابق في الأمن الرئاسي (قال رئيس نقابة الأمن الرئاسي، هشام الغربي، في حديث لإذاعة محلية، إن منفذ الهجوم كان يعمل في السابق في الأمن الرئاسي ثم فصل بعدما ثبت ارتباطه بجهات متطرفة)، وهذا يوضح أن الأسباب الأخلاقية المتعلقة بالحياة المعيشية قد تكون سبباً يُساند الأصل الأول في تحقق فعل القتل والتفجير الدموي لدى الجماعات المتأسلمة ذات الفكر المتطرف.

لذا فإن إلقاء الضوء على هذين الأصلين وإنشاء الأجهزة المتخصصة لمعالجتهما كفيل بتخفيف حدة التوتر من خطورة تمدد التطرف الفكري.