نشر قبل أيام مقال لوزير التعليم الدكتور أحمد العيسى، يحمل عنوانه تساؤلا قديما لوزير التربية والتعليم السابق الدكتور محمد الرشيد "رحمه الله" في محاضرة له: "تعليمنا إلى أين؟"، شخّص فيه كثيرا من المشاكل في التعليم العام، وزرع في نفوسنا آملا ووعودا بإصلاح ما يمكن إصلاحه في منظومة التعليم، يشبه هذا الأمل والفأل ما شعر به الحضور إبان محاضرة الرشيد السابقة الذكر قبل 20 عاما.
وفي ذكر تلك المشاكل التي تعانينها وزارته شجاعة كبيرة قلما نجدها لدى من يتقلد منصبا قياديا، والاعتراف بالمشكلة وتشخيصها ووضع اليد عليها هو الخطوة الأولى نحو الحل بلا شك.
قبل ذلك المقال بأيام، توفي المفكر والناقد والمترجم الكبير جورج طرابيشي، بعد عمر حافل في حقول الفكر والمعرفة، ونتاج كبير من الكتب التي ترجمها وألفها وأثرى بها المكتبة العربية.
عند وفاته استعاد الكثير آخر مقال كتبه بعنوان "ست محطات في حياتي" والذي ذكر فيه أهم ست تحولات مرت به في حياته، وكيف أثرت في نظرته للحياة ولتغيير اتجاهه فيها نحو البحث والتعلم والكتابة والترجمة.
الخلاصة التي ينتهي بها مقال طرابيشي من تجارب عظيمة تضع خارطة طريق أمام من يسعى لتغيير نفسه للأفضل، وتختصره على كل من يسعى إلى التطور وكسب الفائدة من رحلته في هذه الحياة.
والأذكياء الناجحون هم من يستفيدون من تجارب الآخرين وخبراتهم، ويستشفون منها المخارج المناسبة لما يمرون به من مشاكل ومعضلات.
يتساءل العيسى في مقاله، إن كانت نتائج التعليم مرضية للقيادة وللشعب، ومفيدة للأجيال القادمة، ومتناسبة مع تحديات وطموحات العصر الذي نعيش، ومواكبة للتطور والتسارع المحيط بنا، ثم يجيب بالنفي، ويوضح الأسباب بشكل مباشر لا مراوغة فيه، إذ يقول: "إن نظامنا التعليمي ما يزال مكبلا بكمّ هائل من التحوطات والتوجسات المكتوبة وغير المكتوبة، والمخاوف المكبوتة وغير المكبوتة، والتدخلات ممن يمتلك الخبرة والمعرفة والدراية والحكمة وممن لا يمتلكها، ممن يحشر أنفه في كل قضية، ويفتي في كل شاردة وواردة، وممن يتخوف من كل جديد فيحاول أن يمحو كل فكر مبدع، ويسعى إلى تكبيل الميدان بشكوك وهواجس ومعارك صغيرة وتافهة هنا وهناك"، ويتطرق بعدها إلى المشاكل التي يواجهها التعليم وتحتاج إصلاحا شاملا بدء من فكرة المدرسة التي أصبحت عبئا على نفوس الطلاب من مراحلهم الأولى، لما يعتمد عليه التعليم من تلقين ورتابة في المناهج والأنشطة المكررة، والأساليب التدريسية التي تقمع نشاط وذكاء الطلاب وتساؤلاتهم، وتقولبهم في شكل واحد، يخرج معظمهم معه بعد 12 عاما من التعليم العام غير مهيأين لمواجهة العالم باتزان نفسي وفكري لازمين.
يقول جورج طرابيشي تعقيبا على المحطة الثانية في حياته في مقالته المذكورة سابقا إنه: "ابتداء من تلك اللحظة وعيتُ أن مهمة كبيرة جدا لا تزال تنتظرنا في مجتمعاتنا، وإن القضية ليست قضية تغيير سياسة ولا وزارة، بل هي أولا وربما أخيرا قضية تغيير على صعيد العقليات".
ويعلق أيضا في نهاية الحديث عما حدث معه في محطة حياته الثالثة، بأن قضية الوعي الاجتماعي لمن ينتمي إلى أيديولوجيا واحدة أعمق من مجرد مسميات وتصنيفات فهي "قضية بنى عقليّة في المقام الأول. ففي داخل المخ البشري توجد طبقتان: طبقة فوقية سطحية، وطبقة بنيوية تحتية داخل هذا المخ رجعية حتى الموت، وأن الموقف من المرأة في مجتمعاتنا يحدد الموقف من العالم بأسره". ويؤكد أنه من أجل تغيير العقليات بالكلمة باعتباره نضالا مشروعا علينا: "تغيير البنية الداخلية للعقل، وليس فقط البنية السطحية السياسية أو الأيديولوجية".
بقراءة موازية لمقالي وزير التعليم العيسى والمفكر طرابيشي؛ نجد في بعض الخلاصات التي وصل إليها طرابيشي رسائل لكل مسؤول تربوي، ودروسا للمشكلة الأكبر التي نواجهها في تعليمنا: مشكلة الفكر وثقافة التفكير والنقد والتمييز بين الصواب والخطأ.
بعيدا عن كل المنجزات المادية والمبالغ الهائلة التي تصرفها الدولة كل عام في سبيل تطوير التعليم، إلا أن الوزير يعترف بوجود هذا الخلل، ويعترف بأن الإصلاح سيكون "بقرارات صعبة وحاسمة"، ولن تأتي دون "دفع ثمن بعض السياسات والقرارات التي كانت تعالج التعليم من منظور قصير المدى".
وعليه، فإن مقال العيسى يأتي اعترافا بصعوبة المهمة، وأهمية البدء في التغيير الذي ننشده لمصلحة الوطن، تغيير يبدأ بالنظر في بنود ومفردات سياسة التعليم التي وضعت منذ زمن، واستبدالها بما يناسب الوقت الراهن، والالتفات بجدية إلى تعزيز قيم المواطنة والانتماء للوطن، وجعل المحافظة عليه وبنائه وتطويره أولوية بعد تطوير الذات. والحرص في المناهج والمعلمين على غرس ثقافة التعددية وقبول الاختلاف بين جميع أفراد المجتمع وطوائفه وتياراته، حتى لا يسعى أحدها إلى إلغاء الآخر وتهميشه وتسفيهه، مما يؤدي إلى صراعات حزبية تخلق أجيالا هشة وشرسة، تحاول أن تثبت انتصاراتها على حساب تقدم الوطن وسلامة المواطنين. وعليهم إدراك أننا لسنا إلا نسيجا ضمن منظومة دولية محيطة بنا علينا مواكبتها والتعاطي معها بتحضر وعدالة.
كل هذه الأمور لن تأتي إلا برعاية الفكر وتنمية التفكير المنطقي والنقدي، خلال اعتماد مناهج تعني بدراسة الفلسفة والمنطق، وأخرى تدور حول الأخلاق والمدنية، واستثمار الإعلام الذي يحتاج مقالا مستقلا.
الحديث حول الحاجات التي نأمل أن تكون في تعليمنا العام يطول ويتشعب، والتركيز على الكيف أهم من الكم الذي يعقبه إفلاس. ومن كانت لديه شجاعة في الاعتراف بالمشاكل ستكون لديه القدرة، كما نأمل، أن يُحدث نقطة تحول في مسار تعليمنا نحو الأفضل.