يبدو أن هناك شبه إجماع في صحفنا العربية وبما يكتبه السياسيون والمفكرون والصحفيون أن عصرنا هذا هو الأسوأ في تاريخ العرب، ولا أكتب الآن إمعانا في البكاء، ولكن أثير السؤال الذي شغل بال الكثيرين منذ عصر النهضة: لماذا؟ وما السبب؟
أسأل سؤالاً للمقارنة ليس إلا: ذاك الشاب الذي تردد شفتاه بهدوء واحتساب بسم الله الرحمن الرحيم وهو يستقبل الجنة ويتلهف للحور العين قبل أن يفجر نفسه ليأخذ مع حياته حيوات أناس أبرياء مسلمين أو غير مسلمين، هل يختلف في جذور تفكيره عن الذي يهرع إلى الصف الأول طلباً للأجر وإدراكاً للصلاة وتحديداً للركعة الأولى مع الإمام، بل لتكبيرة الإحرام وهو يوقف سيارته في عارضة الطريق ويسد على اثنين أو ثلاثة غير عابئ بنظام ولا متحلٍ بأدب؟ هل تظنون أن المقارنة بين الاثنين مبالغة مني؟ أليس في كلا الحالتين استخفاف بحقوق الآخرين ـ كبيرة كانت كحق الحياة أم صغيرة ـ وعدم مراعاة لأدب أو ذوق؟ إن الموضوع في الجذور، بل إنها في البذور، بذور تطرف الفكر وتشوه المفاهيم هذه التي تنمو في تربتنا، لكن في الخفاء كما تنمو أشجار الحشيش والمخدرات! تتربى على مائنا وتتنفس هواءنا ثم ما تلبث أن تكبر فتخدر العقول والمجتمعات وتدمرها، أليس ما أسكر كثيره فقليله حرام؟
لنترك الفكر المنحرف المتطرف وجذوره وبذوره التي لا تعرف معنى الحياة ولا كيف تعيش، لنناقش مفارقات أخرى لعلها تساعدنا في فهم ما يجري بنا، انطلاقة تبشر بخير في مجال الانفتاح على الآخرين، وقبول الآخر، والاعتزاز بالتراث، هل اتسم بدفاعية الإمام محمد عبده عن الإسلام، ومواقفه التوفيقية مع معطيات الحضارة والفلسفة الغربية البراقة؟ ألم يقل إنه شاهد إسلاماً في الغرب ولم يشهد مسلمين! هذا وهو يمتدح سلوكيات الناس هناك وأدبهم وحسن تعاملهم. اهتمام كبير بالثقافة والأدب العربي بل وبتاريخ العقل العربي، الأستاذ المؤرخ أحمد أمين يكتب سلسلته الرائعة: فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام، يعاصره طه حسين ورسالته عن فكر ابن خلدون ثم جرأته في أطروحاته، وتألقه في (على هامش السيرة)، ومن بعيد يأتي العقاد بلا شهادة جامعية ويكتب العبقريات الإسلامية، وعلى ضعف سمعه يسطر مصطفى صادق الرافعي (تاريخ آداب العرب) ويكتب (وحي القلم)، والمنفلوطي والمازني وقبلهم الطهطاوي والبستاني، وأثناء ذلك ظهر الفكر الحركي الإسلامي في عشرينات القرن الماضي، وعلى تعبير الدكتور رضوان السيد مثل هذا الفكر أشبه ما يكون بالانتكاسة لفكر الإمام محمد عبده في اقتصار اهتماماته حول فكرة مركزية هي عودة الخلافة، وقصور معاني الانفتاح والعالمية إلى مزيد من الخصوصية المفتعلة والانغلاق على الذات، ولم يكن هناك من كبير ضرر في ضمور الفكر، لكن مع تركيز في معاني التربية والزهد والتجرد، وكما هو متوقع ظلت هناك أبعاد حضارية إنسانية كثيرة غائبة عن الفكر الحركي الإسلامي، على حد تعبير الدكتور طه العلواني، وجرى على هذا الفكر "الإصلاحي" ما جرى على جل الأفكار الحزبية الصرفة! إنه غرور السلطة وزخرف الولع بالحكم، ولا أستزيد في هذا، فالواقع هو من تكلم، ورأينا قمة أدبية فنية تصوغ (التصوير الفني في القرآن الكريم)، أقصد (سيد قطب) وتكتب عن (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وتشرق بأسلوب رائع (في ظلال القرآن) وتوغل في عدة مواطن أظهرها في ("معالم في الطريق": الذي كان أساساً إضافات للتفسيرـ بعد أن تم نشره ـ وأغلبه من تقدمة سورة الأنعام) في مفاهيم الاستعلاء والتوحد والعيش فوق المجتمع في عالم "فريد" من العزلة الشعورية والانفصام عن الواقع بسبب (جاهلية) الناس والمجتمعات، فلا غرو إذا استولت مثل هذه المفاهيم ـ من بعدـ على عقول محدودي التفكير والنظر ليتم تأسيس مدرسة من مدارس التطرف والإرهاب الذي لا نزال نصلى بناره إلى اليوم.
وبدون تركيز كبير على الأدب نستعرض مشاريع فكرية كبرى بذل فيها أصحابها زهرة أعمارهم في صياغتها، بدأ مشروع محمد عابد الجابري من سبعينات القرن الماضي تقريباً في (نقد العقل العربي)، وأعلم أني لست من أهل الفلسفة، وأعلم أن لهذا المفكر الكبير الكثير من المعجبين وكتب عنه الكثير الكثير في حياته وبعد مماته ـ رحمه الله ـ ، لكني أسوق هنا وجهة نظر شخصية تماماً: ما هي عملية وواقعية طرح مشروع الجابري الفكري؟ (باستثناء محاولاته في تفسير القرآن وهو آخر ما كتب فلا أظن أن فيها أي جديد، وهذا يتوافق مع عدد من فلاسفة العرب في العصر الحديث، كزكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي حين تحدث في أخريات أعمارهم نفحة روحية تعيدهم إلى جذورهم فينبرون دفاعاً عن الإسلام وتراثه)، هل يتحدث مشروعه الفكري عن مشكلاتنا اليومية؟ أم هل يبحث في رسم خارطة طريق للعقل العربي للخروج من أزمته؟ ما قاله لنا الجابري هو أن مدرسة (البرهان) كنظرية معرفية هي التي يجب أن تعلو على (البيان) و(العرفان) الذي انتقده انتقاداً شرساً، بل اتهمه بأنه نظام معرفي فاسد، لكن دقق في معنى (العرفان) الذي يقصده فلا ترى إلا كرامات الصوفية وشطحاتهم، ظالماً بذلك مدارس جمعت بين الاثنين، بل الاتجاهات الثلاثة بلا تناقض، ولم يذكر الجابري إطلاقاً ـ كما يذكر تلميذه الدكتور عبدالإله بلقزيز في كتابه (نقد التراث) ـ أن أحمد أمين هو من سبقه في هذا التصنيف، وشغل الجابري نفسه ومن رد عليه وشغلونا معهم بعلو شأن المغرب الإسلامي في مدرسة (البرهان)، ممثلة في ابن رشد والشاطبي وابن حزم على المشرق الإسلامي الأقل إبداعاً وأقل برهاناً وأكثر في (البيان) و(العرفان)، صاباً جام غضبه على الغزالي وابن سينا ومنتقداً ابن تيمية. ونفس ما قيل عن عملية وواقعية طرح الجابري، يقال عن طرح محمد أركون في نقد العقل الإسلامي، بل أكثر من ذلك فإن الدكتور بلقزيز يذكر أن عمل أركون الدراسي الكثيف لم يقترن ببرنامج عمل تفصيلي للتطبيق، وإنما ظلت عناوينها، في الأغلب الأعم منها، نظرية وعامة...
عموماً أين نقطة الانطلاق إذاً؟ هل نعيد اجترار معارك قديمة بين المعتزلة وأهل الحديث؟ وتلميذ المعتزلة الذي تمرد عليهم: أبو الحسن الأشعري؟ هل ما زلنا نعيش تحت وطأة فكر وإنجازات ومعارك العصور الوسطى؟ هل يجدي النقاش في درء معارضة العقل والنقل في كشف عللنا النفسية والفكرية؟ كتب الدكتور مصطفى حجازي عدة دراسات نفسية اجتماعية مهمة جداً وأظنه غير مسبوق إليها في التخلف الاجتماعي وأسباب القهر التي يعيشها الإنسان العربي، وعن الهدر الذي أصابنا: هدر الثروات، هدر الأوقات بل هدر الإنسان نفسه! ويعجبني طرح الدكتور محمد يتيم (في نظرية الإصلاح الثقافي) وهو يلمس الجانب السلوكي ويدرس جذوره الفكرية الثقافية التي عطبت وهي بحاجة إلي تجديد بمنهجية تقرأ القرآن الكريم بدون مسبقات وتصورات آخرين من القرون الوسطى، بل بمنهجية تمس واقع الناس وتبحث في أسباب الكلالة وسنن بناء الأنفس والمجتمعات وتستخرج فقهاً للحياة وللسلام وحب الأوطان وللعيش الهادئ المطمئن الذي لا إكراه فيه وإنما الخير كل الخير للناس أجمعين.
إن مجال الدراسات القرآنية الموضوعية ـ في نظري ـ ما زال بدائياً، ونحن بحاجة إلى تفسير موضوعي حديث ينزل إلى واقع الناس وتشكيل عقولهم وأفكارهم وتصوراتهم.