محلات تبيع منتجات شعبية، تعج بالداخلين والخارجين، رجالا ونساء، في حركة لا تتناسب مع نوع النشاط الذي تمارسه، ومما يثير الدهشة أن مرتادي تلك المحلات يخرجون خالي الوفاض كما دخلوا، دون أن يبتاعوا شيئا، وهو ما يدعو للتساؤل عن سبب دخولهم وخروجهم، إلا أن المتتبع لسبب الدخول والخروج يدرك أن تلك المحلات تعمل في تحويل الأموال إلى خارج المملكة، وتمارس نشاط السوق السوداء في العملات.
تنتشر تلك المحلات في أسواق المدن الكبرى، مثل الرياض وجدة والدمام ومكة المكرمة والمدينة المنورة. ويرتادها كثير من أبناء الجاليات السودانية والإندونيسية وغيرها من الجاليات، الذين يقومون بتحويل الأموال إلى بلادهم، ولا يرتادون البنوك على الإطلاق، لسبب واحد بسيط، هو الرغبة في الاستفادة من فارق السعر الذي توفره تلك الأسواق، الذي يصل إلى قرابة الضعف. إضافة إلى سرعة تحويل تلك الأموال، حيث تصل في بعض الأحيان إلى مستحقيها في بلد المرسل خلال أقل من نصف ساعة.
وكما هو معمول به في الصرافات الرسمية، يتغير سعر بيع العملات بصورة يومية، وفقا لعمليات العرض والطلب، وسعر الدولار والريال في بلد المرسل إليه، وتبدأ عمليات المساومة بين البائع والمشتري، حتى يتم التوصل إلى اتفاق، يقوم بموجبه المرسل بتسليم المبلغ، وبيان اسم المرسل إليه، ورقم هاتفه. وبدوره يقوم الوسيط بإرسال رسالة نصية عبر هاتفه لبعض المشتغلين معه في بلاده، بطلب تسليم المبلغ للشخص المحدد. ومما يثير الدهشة أن هذه العملية التي تبدو في ظاهرها معقدة تتم خلال دقائق معدودة، وفي وقت لا يتجاوز نصف ساعة يكون صاحب المال قد استلمه كاملا.
ثقة متبادلة
يحرص المتعاملون في مجال تحويل الأموال على عدم تقديم أي مستند يثبت تعاملهم في هذه التجارة غير المشروعة، فهم لا يقدمون إيصالا باستلام الأموال، ويرفض معظمهم تحويلها في حسابه، لحرصهم على عدم ترك أي دليل يمكن أن يؤدي إلى مساءلتهم أمام الجهات الرسمية، كما يحرصون على عدم إبقاء مبالغ كبيرة بحوزتهم، وكلما توافر لدى أحدهم مبلغ كبير من المال، فإنه يقوم بتسليمه إلى أحد العاملين معه ليقوم بإخفائه في مكان آخر، خوفا من حدوث مداهمة أمنية لمحله. وعن كيفية ضمان تسليم الأموال المحولة إلى مستحقيها يكتفي العاملون بالقول إن تعاملهم يعتمد على الثقة المتبادلة، كما أن عملية تسليم المقابل المادي للمستلم في بلده تتم بسرعة، لإنهاء المعاملة.
سرعة وأمان
يشير أحد السودانيين – رفض الكشف عن اسمه – إلى أنه يتبع هذه الطريقة منذ قدومه إلى المملكة قبل ما يزيد على 15 عاما، مؤكدا أنه لم يسبق له الذهاب إلى أي بنك لتحويل أمواله، وقال "السعر الذي تحدده السلطات السودانية للعملات الصعبة متدن جدا، بينما نستطيع عبر الوسطاء تحويل أموالنا بسهولة ويسر وبأسعار تتجاوز الضعف في بعض الأحيان، فبينما تعرض السلطات مبلغ 1.65 جنيه للريال السعودي، فإن السعر عبر الوسطاء إلى 3.20 جنيهات، إضافة إلى عدم حاجة من نرسل لهم الأموال للذهاب إلى البنوك، حيث يستلمون الأموال التي نرسلها لهم عبر الوسطاء وهم في منازلهم".
وأضاف "على سبيل المثال فإن والدي البالغ من العمر 75 عاما لا يستطيع تحمل مشقة الذهاب إلى البنك، والوقوف لأوقات طويلة في طوابير الانتظار، إضافة إلى احتمال تعرضه للسرقة أو الاحتيال. لذلك فإنني أرسل إليه المال بهذه الطريقة، وكل ما يحتاج إلى عمله هو الانتظار حتى يأتيه أحد الأشخاص ويقوم بتسليمه المال وهو داخل بيته".
تدني الأسعار الرسمية
يشير آخر إلى أن الأسعار التي تعرضها البنوك للعملات الصعبة هي السبب في عزوف المغتربين عن تحويل أموالهم بالطرق الرسمية، مما يتسبب في حرمان الدولة من تلك الأموال، ويقول "العالم يمر بعصر العولمة، والسوق الحر المفتوحة، ورغم ذلك تصر حكومتنا على تحديد أسعار متدنية للعملات الصعبة، مما يدفعنا إلى اللجوء إلى السوق السوداء، وهذا يحرمها من الاستفادة من مبالغ ضخمة كان يمكن استخدامها لتعزيز الاقتصاد".
وأضاف "الإحصاءات التي أصدرتها الحكومة السودانية نفسها تؤكد أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين سوداني يعملون في دول المهجر. فإذا اعتبرنا أن متوسط تحويل كل فرد منهم ألف ريال فقط شهريا، فإن ذلك يعني أن الدولة حرمت نفسها من 3 مليارات ريال شهريا، مع الأخذ في الاعتبار أن الأموال التي تحول أكثر من ذلك بكثير".
تحويلات خارجية
أين تذهب تلك الأموال الضخمة التي يتسلمها الوسطاء؟ سؤال يتردد في أذهان الكثيرين، ويتولى أحد الوسطاء الإجابة عنه بالقول إنهم يقومون بتحويل تلك الأموال إلى بعض الدول مثل الصين واليابان وماليزيا وإندونيسيا، حيث يتسلمها تجار يستخدمونها لشراء سلع ترسل إلى دولهم، ويتقاضى الوسطاء نظير تلك العملية عمولات مغرية.
وعن كيفية تمكنهم من تحويل تلك الأموال الكبيرة بصورة شهرية، رغم الضوابط التي تفرضها الأجهزة الأمنية في دول الخليج العربي، يقول إنهم يحولونها عبر كفلائهم أو بعض مواطني تلك الدول، وأضاف "حتى يسمح لي كفيلي بالاتجار في العملة، وتحويل المبالغ للجهات التي أحددها له، فإنه يأخذ مني مبلغا شهريا مقداره 10 آلاف ريال. ويتفاوت المبلغ الذي يدفعه الوسطاء بحسب حجم نشاطهم، ويصل في بعض الأحيان إلى 50 ألف ريال شهريا". وتابع "السودانيون العاملون في كل الدول يقومون بتحويل أموالهم بهذه الطريقة، وليس في المملكة فقط، وينتشر هؤلاء الوسطاء في أي مكان يوجد به سودانيون عاملون".
مخاطر متعددة
لا تخفى المخاطر العديدة التي تترتب على مثل هذا النشاط على الدول التي يمارس فيها، فهو نشاط خفي لا تتوافر أرقامه بدقة للجهات المختصة، مما يحرمها من المعلومات التي تبنى عليها القرارات الاقتصادية. كما أن هذه الأموال قد تستخدم لأنشطة إجرامية، مثل تمويل الإرهاب، أو غسل الأموال، أو تجارة المخدرات. أو أي أنشطة أخرى غير شرعية. كما أن الأموال التي تخرج بتلك الكميات الضخمة لا بد أنها تترك آثارا اقتصادية سلبية، تسعى كافة الدول لمحاربتها. إضافة إلى أن بعض من يحصلون على الأموال بطرق السرقة والاختلاس يمكنهم تهريب أموالهم إلى الخارج بسهولة.
بنوك متحركة
أوضح الخبير الاقتصادي، فضل البوعينين أن هذه الجهات يطلق عليها "البنوك المتحركة"، وهم فعليا أفراد دون مكاتب ثابتة، ومن كل جنسية تجد مقيما واحدا يتولى القيام بهذه المهمة لبني جلدته، مقابل رسم بسيطة أقل من رسوم البنك، وكذلك يعطي سعر عملة أفضل من الذي يقدمه البنك، إضافة إلى أنه عادة يتمتع بمصداقية كبيرة لدى العمالة، ويتحول مع مرور الوقت إلى ما يشبه البنك المتحرك.
وأضاف البوعينين أن هذه الممارسات تسبب إشكالات كثيرة، منها أن جميع الأموال التي تمر من خلالها لا تمر عبر القنوات الرسمية، وبالتالي فهي غير مدرجة ضمن البيانات التي يتم التدقيق فيها، مثل حجم الحوالات ومصدرها، وكذلك تسهم في تمرير الأموال إلى الخارج لمن لا يمتلكون الصلاحية في التحويل، إما بسبب مخالفتهم لأنظمة الإقامة، أو يكونون قد حصلوا على الأموال من مصادر غير مشروعة، وثالثا يمكن إدراج هؤلاء ضمن ما يطلق عليه "مصرفية الظل" وهي أن يتحول أحدهم من مجرد محول للأموال إلى مقرض للأموال، وبذلك تنشأ منظومة إقراض غير نظامية، ورابعا فإن ما يقوم به هؤلاء هو غسل أموال، لأنهم يمررون أموالا بطريقة غير نظامية، مقابل أرباح من الأشخاص المحولين وهم بذلك يحققون أرباحا من مصادر غير مشروعة، وأخيرا هم خطر على الاقتصاد الوطني لأنهم يمررون أموالا ضخمة إلى خارج المملكة، دون رقابة من مؤسسة النقد، وبذلك يخلون بالنظام المالي والأمني، وهذا الكلام ليس مبالغة، بل هو واقع ملموس وانتشارهم الواسع يؤكد مدى خطورتهم.
وعن كيفية منع هذه الممارسات، وإيقاع العقوبات على من يقومون بها، قال البوعينين إن ذلك ينبغي أن يتم عن طريق الجهات الأمنية، لأنها هي التي تستطيع إيقافهم وفق القانون ويجب أن يتم اختراق مثل هذه الجماعات التي تعمل بأعداد كبيرة.
مداهمات واعتقالات
كانت جهات أمنية مصرية قد أشارت إلى أن بعض أبناء الجاليات المقيمة بمصر، ومن بينهم سودانيون، يتعاملون في تجارة العملات، حيث يقومون بتسليم الأموال إلى أشخاص بناء على طلبات ترد إليهم من دول الخليج العربي.
وشهدت القاهرة حالات اعتقال عديدة طالت عددا من السودانيين، ووقع ضحيتها بعض الذين وصلوا مصر بغرض السياحة أو العلاج، مما أدى إلى تدخل السلطات السودانية وطلب الإفراج عن المعتقلين واسترداد أموالهم، بعد تأكيدات السفارة بأنهم لا يمارسون تجارة العملة.
وأكدت أنها لن تقوم بالتغطية على أي سوداني يمارس تلك الأنشطة التي تجرمها كافة القوانين، ودعت أبناء الجالية السودانية إلى الالتزام بقوانين الدولة التي يقيمون على أرضها.