في بناء المقال تكمن الصعوبة في رسم الجملة الأولى، فكيف إن كان هذا في تأبين صديق ووداع زميل حياة ومهنة. استيقظت باكرا فجر الجمعة لأقرأ على "جنون" تويتر خبر وفاة كاتب "الوطن" الكبير، الدكتور عبدالرحمن الوابلي. تركت الجوال ومعه "تويتر" لأكثر من ساعة محاولا خداع نفسي أن "التغريدة" مجرد شيء من أكاذيب أبريل الذي لم يأت بعد. ولكن بعد ساعة كبرت الإشاعة التي تحولت إلى حقيقة. رحم الله عبدالرحمن الوابلي.

في المرة الأولى التي قابلت فيها ذلك الأبيض النقي، كنا مجموعة من الكتاب في زيارة إلى "كاوست"، جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية. وبالطبع، كان من الصعب اختراق تلك الشخصية القصيمية التي تبدو من الوهلة الأولى كـ"جلمود صخر" من الكبرياء والرزانة. كان سؤالي وأنا أجلس بجواره: هل يمكن للطرفة أو النكتة أن تكشف لنا حجم الإنسان في جوف هذه "الكاريزما" التي تأخذ بالألباب... وبعدها تحول هذا "الباص" إلى ضحكات ساخرة كان بطلها كل ما بهذا الإنسان من طفل نقي تقي أبيض. ومن بعد تلك الرحلة، كنت كلما أشتاق وأتوق إلى النكتة الساخرة أبحث في ذات الجوال عن عبدالرحمن الوابلي منتصف المساء، وكلما زادت وتيرة الضحك تأتي زوجتي إليّ لتعيد ذات الجملة التي سمعتها من فمها ألف مرة: أكيد تكلم عبدالرحمن الوابلي.

من عبدالرحمن الوابلي؟: هو المؤلف الذي كتب في هذه "الوطن" أروع المقالات التي كانت أعظم تشخيص لأورام هذا المجتمع وأمراضه، ولكن كل هذا لا يكفي من أجل بطاقة التعريف. هو... عبدالرحمن الوابلي، أجمل من كتب بضع حلقات من المسلسل الشهير "طاش" مع كل دورة رمضانية في توصيف أخطر أمراضنا الاجتماعية، ومن الدهاء أنه كان يهرب من المشهد بكل ذكائه الاستثنائي ليترك الجمهور والرأي العام في جدل مع المخرج والممثل دون أن يدركوا أن الصدمة المجتمعية الهائلة كانت تعلم المؤلف وكاتب القصة.

قصة راحلنا الاستثنائي تكمن تماما في أنه كان أمام الجمهور العام مثل الصخرة الخفية، ولكنه أمام من يعرفه مثل "البرتقالة" التي لا تحتاج سوى لتفكيك القشرة كي تصل إلى كل تلك الكنوز المذهلة. مساء البارحة عدت إلى كل ما كتبه عبدالرحمن الوابلي عن مدن القصيم، مسقط رأسه، عن ثقافة القصيم وعن إنسانها، فلا أعتقد أن كاتبا سعوديا استطاع وصف ثقافة المكان بكل هذا الإبداع والخيال بمثل ما استطاعه عبدالرحمن الوابلي. هو باختصار: موت المثقف الخفي.