مضى يوم الأم وأنا أتحدث عن أمي في إحدى المجموعات الواتسابية، وسأعيد بعض الحديث هنا اليوم، لعلني أوفيها بعضا من حقها. كانوا يسمونها هدية بنت لويبد الغيثية الشمرية، أو أم غازي - ولدها الأكبر- وكنتُ أسميها: أمي منذ أن وعيت في هذه الحياة. بدوية لم تعرف من الحياة إلا بساطتها، رغم أنها عاشت أغلب حياتها في المدن الأسمنتية، لكن بقيت البدوية التي كانت ترعى البهم "صغار الغنم" في داخلها.
وُلدت هذه الهدية "واسمها مشتق من الهدوء" في بادية من بوادي جنوب حائل، تحت شجرة بعد أن عادت أمها لجلب الماء من أحد الأودية القريبة، لكنها عاشت اليتم منذ صغرها، حيث توفيت أمها وهي صغيرة لترعاها وترعى إخوتها زوجة أبيها لتبقى مدى عمرها تناديها على أنها أمها، وقد كانت بنتا هادئة الطباع سمراء اللون تحمل بعض السمنة، على خلاف ما اعتادته بنات البدو في ذلك الحين.
حينما أصبحت شابة جاء القدر ليأخذ أباها كما أخذ أمها من قبل، لتعيش مع إخوتها الذكور وأخواتها وزوجة أبيها، حتى جاءت ذات نهار سيارة تشق الغبار لتقف عند مدخل بيت الشعر ولينزل منها عدد من الرجال كان منهم رجال طويل القامة صار لاحقا زوجها هو عزام بن شتيوي الغيثي الشمري، ليحملها معه إلى موطن الطفرة السعودية، إلى الخبر لتعيش في بيت شعبي في الثقبة، لتتعرف على عدد من بنات القبيلة التي يعشن هناك مثلها أو من مناطق أخرى، ولتنجب أول مولود لها: غازي لتحمل اسم: (أم غازي) طيلة حياتها حتى الآن، ثم أنجبت بنتا أسمتها "أمل" هي الأخت الكبرى.
في تلك الأيام كان شتيوي والد عزام شيخا كبيرا على فراش المرض وقد عملوا له عددا من العمليات التي لم تنجح بسبب مرض الفتاق المسمى شعبيا: (البعج) وقد كنتُ - أنا كاتب هذه السطور - مضغة في بطن أمي، تتشكل أعضائي كلما قاربت أعضاء جدي شتيوي إلى الموت، وقبل ولادتي بأشهر توفي جدي لأحمل الاسم من بعده.
بعد ولادتي بسنتين اقتحم جهيمان ومجموعته الحرم المكي، وكان هذا الاسم يشكل رعبا في قلب أمي، فلم تتصور، مع تدينها البسيط، أن رجلا يجرؤ على أن يقتحم الحرم، وكانت أول مرة أسمع بقصة جهيمان كانت من رواية أمي حينما تتحدث عن مجموعة رجال دينهم غير ديننا لطفل صغير لم يكن يعرف تلك التعقيدات، لكن تلك الأم التي تروي لصغيرها لم تكن تعلم أن المحيط كله سيتأثر بتلك المجموعة، فحتى هي على بساطتها تأثرت بما تأثر به المجتمع، من ذلك أنها كانت تكشف وجهها عند إخوان زوجها حتى رأت في القناة الرسمية شيخا يحرم ويحذر من كشف الوجه لغير الزوج، ومن ذلك الوقت حتى الآن وهي تغطي وجهها، كما أن علاقتها بالمسلسلات والأغاني كانت علاقة طبيعية إلا أنها تأثرت كما المجتمع ككل بفساد هذه الأمور رغم تدينها الفطري السابق واللاحق.
انتقلت مع زوجها وأولادها إلى حائل أوائل الثمانينات الميلادية لتعيش في منطقة حضرية وتعايش مجتمع الحضر أكثر من مجتمع البداوة، ومع ذلك كانت علاقتها طيبة مع جيرانها وكانت "الطّعمة" "وهي بعض من الغداء والعشاء تتداوله نساء الحارة للجيران"، تسير من بيت إلى بيت، كما تعلمت بعض المهارات الحضرية وغيرها، لكن فجيعتها كانت بطفلها راشد الصغير حين دهسته سيارة وهو عائد مع أخويه الصغيرين من المخبز فلم تره بعد ذلك اليوم ولم يبق من أثره إلا بقعة دم على الشارع لتبقى ذكرى فقيد صغير من ذلك الحين.
كبر ولدها - الذي هو أنا - وانخرط بالصحوة كما انخرط غيره، وكانت سعيدة لكونه اختار طريق التدين، وكانت أكثر فرحا حينما تسمع ثناء نساء الحي على ولدها الذي يؤم المصلين وهو شاب، حتى أواخر التسعينات حيث بدأت بوادر التغير على ولدها، لكنها لم تكن بدرجة كافية لتعرف ذلك، ومع اتساع القراءات كان الولد يمضي في طريق غير الطريق الذي كانت تأمله، وحين بدأ الكتابة في نقد الخطاب الديني ثار بعض المجتمع ضده وتكلموا في عرضه وهي تسمع، لكنها لا تعرف ما الذي حصل، وحينما قرر الولد أن يخفف لحيته كان قلقا من ردة فعلها حزنا عليها وليس خوفا، لكنها بادرته بحنانها حينما رأته خفف لحيته بجملة لم ينسها: "يا حلوك طلع وجه يا وليدي"، ومع مرور الأيام كان الهجوم على الولد يزداد وقلب الأم يتقطع على ولدها وكانت تقول بلهجتها البسيطة: "يا ربي الناس يحكون بولدي وأنا أشوف ولدي ما تغير"، وكانت تبكي كلما رأت شيئا مختلفا في ولدها عما كان عليه حتى سملّت للأمر الجديد، وخف الهجوم عليه مع الوقت.
بعد انتقال ولدها إلى المدينة بسنتين ألمّ بها عارض صحي في قلبها، فأظلمت الدنيا في عينيه، فتلك التي أحبها تقع طريحة الفراش، ترك كل شيء وذهب إليها في حائل ليجد الأجهزة تعزلها عنه ليحظى بقبلة على يديها لا أكثر، وليجلس عندها حتى تأكد من شفائها وهي تنعم بصحتها الآن.
كانت تلك مسيرة أمي البسيطة، أمي التي لم تكن تعرف تعقيدات الحداثة ولا الصحوة ولا الأفكار المتطرفة، وتسامحها تسامح فطري مع كل من حولها، بغض النظر عن مرجعيته الفكرية أو الدينية التي عادة لا تعرف عنها شيئا، وهي قصة كثير من الأمهات المكلومات في هذا المجتمع، هي قصة مجتمع بكامله في كل تحولاته وتناقضاته، فإذا سلم الله ولدها لها فكثير من الأمهات ذهبت فلذات أكبادهن ضحايا الأفكار المتطرفة والعنف والإرهاب.