تسلمت رسالة نصية على هاتفي تتحدث عن عملية إرهابية في مطار بروكسل، وأخرى في محطة القطار. كان ذلك صباح الثلاثاء في الثاني والعشرين من مارس. كنت جالسا في صالون فندق الفيصلية في الرياض التي كنت قد وصلتها ليلا لحضور احتفال "جائزة الملك فيصل العالمية" في دورتها الثامنة والثلاثين برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. تقدمت انفجارات بروكسل نشرات الأخبار، وفُتِح هواء الإعلام للمحللين والخبراء، وبدأ الحديث عن الضحايا البريئة من المدنيين في المطار ومحطة القطار، بالإضافة إلى تعطل الحياة في بروكسل. ونحن كعادتنا تعاملنا مع التفجير كأنه حدث استثنائي في حين أنه يأتي في سياق حرب كبرى تدور رحاها على أرضنا، وقد بدأت تطال شظاياها دول العالم والجوار. علينا أن نتوقف عن متابعة الأحداث كل على حدة، بل يجب التعامل معها في سياق الحرب الكبرى السياسية والعسكرية والتي تطال البشرية بأسرها، وبلادنا ساحاتها الأكثر دموية ودمارا. علينا أن نضع الحدث في زمانه ومكانه وسياقه، إذ إن التفجير جاء عشية زيارة أوباما إلى كوبا والتي سُخِّرت لأجلها ماكينة إعلامية كبرى لإظهارها كانتصار سياسي تاريخي للرئيس أوباما. والحديث يطول هنا عن هذه المصالحة وأبعادها، وكيف أن انفجارات بروكسل دمرت الصدى الإعلامي لزيارة أوباما إلى كوبا. كما تزامنت الانفجارات أيضا مع انتهاء الجولة الثانية من محادثات جنيف السورية وبداية ظهور سياسة حزم دولية، خصوصا بعد الخطوات الروسية بالتدخل والانسحاب المبهم وعشية زيارة وزير الخارجية كيري إلى موسكو، وعلاقة هذه الزيارة بمستقبل سورية. أما مكان الحدث فهو بروكسل، مدينة المهاجرين بامتياز، من كل الأعراق والهويات. وأهميتها تكمن في أنها -أولاً- عاصمة حلف الناتو، القوة الأعظم إن لم تكن القوة العالمية الوحيدة بعد زوال حلف وارسو الذي تلاشى مع انهيار الدول الشيوعية أو ما يسمى بسقوط جدار برلين، مما يعني أن الناتو على أبواب القيام بعمل عسكري ما وفي المنطقة بالذات. وهذه الرسالة موجهة إلى الناتو وليس إلى الشعب البلجيكي. وأيضا بروكسل هي عاصمة الاتحاد الأوروبي. وإن دموع ممثلة السياسة الخارجية الأوروبية موجريني في عمان على إثر الانفجارات في بروكسل تجعلنا نفكر ونتساءل عن المعنى العميق الذي أدركته الممثلة الأوروبية لهذا التفجير، وهي العارفة بأسرار دول الاتحاد الأوروبي وبالتوجهات الدولية المرتبطة بالحدث، وهي أيضا عالمة بالتحضيرات القادمة عسكريا وسياسيا. وأعتقد أنها كانت تبكي على ما هو قادم من تطورات قد تطال البيت الأوروبي ومنطقتنا والعالم. أما سياق الحدث فهو أن هؤلاء الضحايا الأبرياء الذين سقطوا في بلجيكا وبالعشرات هم جزء من مئات الأبرياء الذين يسقطون كل ساعة وكل يوم في سورية والعراق واليمن وليبيا وفلسطين نتيجة الهوائية الأميركية التي أشعلت كل تلك الحرائق وتحاول أن تعالجها بالقصائد المؤثرة بين كوبا وطهران، حيث قوضت استقرار أصدقائها وتحاول إعادة بناء أعدائها، مما جعل العالم يبحث عن نظام دولي جديد قبل الخراب الكبير وعلى الجميع. الثامنة من مساء الأربعاء في 23 مارس، كنت جالسا على مقعدي في قاعة الأمير سلطان الكبرى، حيث تقام احتفالية جائزة الملك فيصل العالمية. وحسب الجدول، وصل خادم الحرمين الشريفين راعي الاحتفال قبل التوقيت المحدّد. وبعد مراسم الاستقبال الملكي بدأ الاحتفال في الثامنة والنصف وحسب الجدول وبمنتهى الدقة. وفي ذلك احترام كبير من خادم الحرمين الشريفين للمكرمين والحضور، مما يتناقض مع ما كنت أسمعه في الساعات الماضية عن العرب والمسلمين بعد تفجيرات بلجيكا. افتتح صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، رئيس هيئة الجائزة بكلمة موجزة كعادته. وخلال دقائق ثلاث حدّد الأسس التي قامت عليها المملكة العربية السعودية كما أرادها الملك المؤسّس عبدالعزيز آل سعود، وهي الدولة والدين والعلم، وكيف أرسل الملك المؤسّس مع نشوء الدولة معلما وداعية إلى كل ناحية. وبعد الحديث عن الأبعاد العلمية والإنسانية للجائزة، بدأ تسليم الجوائز للفائزين، وتحدث أحد العلماء عن أستاذته التي نالت جائزة الملك فيصل العالمية وبعدها نالت جائزة نوبل عن الأبحاث ذاتها. والمعروف أن سبعة عشر عالما وعالمة قد فازوا بجائزة الملك فيصل العالمية أوّلاً، وبعدها نالوا جائزة نوبل العالمية، ومنهم العالم المصري أحمد زويل. تركْتُ مركز الفيصلية بعد انتهاء الحفل باتجاه المطار لمغادرة الرياض التي قضيت فيها يومين، كنت موزّعاً خلالهما بين بروكسل وتقاطعاتها الإقليمية والعالمية وأدبياتها واتهاماتها والصورة المشوهة التي يحاول كثيرون رسمها عن العرب والمسلمين في أذهان الأجيال الغربية، مما يؤسّس لنشوء أجيال كارهة للعرب والمسلمين وتوليد تيارات أوروبية وأميركية تنظّم هذا العداء، وقد شاهدنا ذلك في باريس وهولندا وغيرهما، بالإضافة إلى ما نراه الآن في الانتخابات الأميركية، وبين الفيصلية حيث كنت أتذوق طعم ذلك النجاح لجائزة الملك فيصل العالمية وتقديرها للعلم والعلماء والفقهاء والأدباء طيلة ثمانية وثلاثين عاما لتشمل مواطنين من أربع وأربعين دولة من كافة القارات والأديان والعقائد. السؤال الكبير الذي يدور في ذهني الآن هو: هل نحن الذين ارتكبوا جريمة بروكسل، أم هل نحن الذين نكرم العلم والعلماء في الفيصلية؟ وحتى كتابة هذا المقال وأنا لا أزال بين الفيصلية ومتفجرات بروكسل.