يُحكى أن الرئيس الأميركي هاري ترومان استدعى الدبلوماسيين الأميركان في الشرق الأوسط آنذاك، لتقديم المشورة في مشروعه لتوطين اليهود في فلسطين، فنقلوا له اعتراض العرب على سياسته، مما قد يضر بالعلاقات مع الدول العربية. فقال ترومان: وهل العرب لديهم أصوات في الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ فأجابوه بالنفي. فقال: لكن اليهود لديهم أصوات هنا يقدمونها لي. يبدو أننا كعرب نظل نمارس العاطفة في شتى شؤون حياتنا، ونتعامل معها كمبادئ لا نحيد عنها، رغم أننا قد هُدينا لتغليب العقل وإدراك المصالح من معين النصوص الدينية والقيم العربية، بيد أن الطبع قد يغلب التطبع وللأسف. بالتأكيد، لسنا في صدد قتل العاطفة لأنها من جماليات الحياة، غير أن العاطفة تحتاج إلى ضبط وميزان في كل الأحيان ومع كل المواقف. الرومانسية والحنين والأشواق والشاعرية العربية كلها مشاعر جميلة، لكنها حين تتغلب على العقل والمصالح تتحول إلى جينات مدمرة للشخص ولمجتمعه. هذه الجينات تصبح خطيرة حين تكون حاضرة في غير محلها، خصوصا حين تندس في ثنايا السياسة، لأن عالم السياسة ينسف العواطف لتتحول إلى عواصف قائمة على المصالح البحتة ليس إلا. العالم اليوم أصبحت تحكمه المصالح وليست العواطف أو الصداقات كما يتصور الكثير، والأمثلة عديدة في زمن يشهد أعاصير وتقلبات المواقف السياسية، والتي تعد دروسا ثرية في هذا الجانب. 1 المبرم مع إيران + الاتفاق النووي 5 لتحقيق المصالح المشتركة للأطراف المعنية، خير مثال على ذلك. وفي قضية احتضان الأميركان للإخوان المسلمين ودعمهم هو أيضا مثال للمصالح المهيمنة على المواقف السياسية. أضف إلى ما سبق، مواقف أميركا الجديدة وتخاذلها مع الشرق الأوسط دليل جلي على البراغماتية بكل صورها. إن تباين المواقف الأميركية من الشرق الأوسط في العهد الماضي والعهد الحاضر ليس لاختلاف القادة فحسب، بل لاختلاف المصالح، حيث لم تعد المنطقة تمثل جل المصالح الأميركية بعد الالتفات الأميركي إلى الغاز الصخري، مما جعل أميركا أقل حماسا، وبالتالي أقل التزاما في موضوع حماية المنطقة وحماية مضيق هرمز، والذي تمر منه حوالى نص ف الصادرات النفطية العالمية، الأمر الذي من شأنه رفع تكاليف النفط التقليدي نتيجة رفع أسعار تأمين المخاطرة على ناقلات النفط، ومن هنا ترتفع أسهم شركات النفط الصخري الأميركية لتسيطر على سوق النفط العالمي. إن تخلي الأميركان عن أصدقائهم الزعماء ابتداء من شاه إيران مرورا بحسني مبارك، واليوم تسحب يدها عن دول الخليج، وتصافح بها اليد الإيرانية في مشهد يؤكد للمتابع أن أميركا أمام مصالحها تعصف بأصدقائها، إن كان هناك أصدقاء أصلا. الرئيس الروسي بوتين هو أيضا يقدم درسا براغماتيا مزدوجا في دخوله سورية والخروج الجزئي منها خلال 166 يوما، وذلك بعدما حقق مصالحه الوطنية في تعزيز القواعد العسكرية الروسية بغض النظر عن بشار الأسد ومصيره المحتمل. ولكم سمعنا المبدأ الدبلوماسي الدارج "لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، وإنما مصالح دائمة"، غير أننا لا نجيد السماع، ولا نجيد التطبيق المفيد بحكم عواطفنا الودودة الغالبة على أمرنا. فحين يتغير موقف دولة ضدنا أو يكون خلاف عواطفنا، فإننا نبدأ في استنفار العاطفة بالاستغراب والتعجب، وكَيْل اللوم والسب والشتم على تلك الدولة، أو ذلك الرئيس لأنه لم يراع "الأخوة والنخوة"، بينما الدول لا تبحث عن الأخوة والنخوة والشهامة العربية الجياشة، بل تسعى إلى مصالحها ومصالح شعوبها، وهذا من أبسط حقوقها، وبدلا من هذا كان ينبغي علينا البحث عن مصالحنا، بفرض إستراتيجيات تجعل مصالح القوى العظمى والصغرى بين يدينا وفي أوطاننا، لتأمين أكبر قدر من كعكة المصالح الدولية المشتركة. الناظر إلى المواقف الدولية من نافذة وجدانية يصاب بصدمات عاطفية متتالية، وذلك لتسارع تغيير المواقف بحسب بوصلة المصالح، لكون السياسة عبارة عن أجساد مثلجة خالية من حرارة العواطف، فهي عبارة عن تبادل مصالح وليس تبادل عواطف.